التّهلكة ، فبلغ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذلك ؛ فقال : كذبوا قال الله تعالى : (مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(١) [البقرة : ٢٠٧].
ولقائل أن يجيب عن هذه الآية ؛ فيقول : إنّما حرمنا إلقاء النفس في صفّ العدوّ ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم ، فأما إذا توقع ، فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم إنّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع؟
الوجه الثالث من تأويل الآية : أن يكون هذا متّصلا بقوله سبحانه : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩٤] أي : فلا تحملنّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم ، فتهلكوا بترككم القتال ، فإنّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة(٢).
الوجه الرابع : أنّ المعنى : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تقولوا : إنّا نخاف الفقر ، فنهلك إن أنفقنا ، ولا يبقى معنا شيء ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك ؛ كما يقال جعل فلان فلانا هالكا ، وألقاه في الهلاك ؛ إذا حكم عليه بذلك (٣).
الوجه الخامس : قال محمد بن سيرين ، وعبيدة السّلمانيّ : هو أنّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل ؛ فيستهلك في المعاصي ، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة (٤) ؛ فحاصله أنّ معناه النّهي عن القنوط من رحمة الله تعالى ؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية ، والإصرار على الذنب (٥).
الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد (أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة ، والإحباط ؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلا يحبط ثوابه ، إما بذكر المنّة ، أو بذكر وجوه الرياء ، والسّمعة ؛ ونظيره قوله تعالى (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٣].
وروي عن عكرمة (٦) : الإلقاء في التهلكة ، قال تبارك وتعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢٦٧].
وقال الطّبريّ : هو عامّ في جميع ما ذكر ، لأن اللفظ يحتمله.
قوله «وأحسنوا» اختلفوا في اشتقاق «المحسن» ، فقيل : مشتقّ من فعل الحسن ،
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢٤٩٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣١) وزاد نسبته لوكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن المغيرة بن شعبة.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٣ / ٥٨٩ عن محمد بن سيرين وعبيدة السلماني.
(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.
(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٤٢.