الفرض ما ثبت بدليل قطعيّ ؛ لأن أصله القطع ، وسمّاه بالركن.
__________________
ـ أي : سقطت ، والذي أوجبه الله علينا بدليل ظني لمّا لم يعلم يقينا فرضه ، وتقديره علينا ، كان ساقطا ، أي : غير معدود من القسم الذي يتعلق به العلم ؛ لأنه خاصّ بالمقطوع به ، ومن هنا سمّوا ما ثبت بقطعي ب «الواجب» علما وعملا ، وما ثبت بظني ب «الواجب» عملا فقط.
ولكن يردّ عليهم بأن تخصيص الفرض بالمقطوع به فقط تحكم ؛ لأن الفرض في اللّغة التقدير مطلقا ، سواء كان مقطوعا به أو مظنونا فالتخصيص بأحد القسمين دون الآخر تخصيص بلا دليل ، فلا يكون مقبولا.
وبأنه وردت في اللغة كلمة «وجب» بمعنيين :
الأول : بمعنى : سقط ، ومصدرها حينئذ : الوجبة ، وليس هذا محل النزاع.
الثاني : بمعنى ثبت ؛ ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا وجب المريض فلا تبكين باكية» أي : إذا ثبت واستقر وزال عنه الاضطراب ، فلا تبكين باكية ؛ لأن ذلك علامة اشتغاله بمشاهدة أمر من أمور الآخرة ، فمصدرها حينئذ الوجوب بمعنى : الثبوت ، فيقال : وجب الشيء وجوبا ، أي : ثبت ثبوتا ، سواء كان مقطوعا به أو مظنونا ، فتخصيص الواجب بما ثبت بدليل ظني ؛ لأنه ساقط ، أي : نازل عن اعتباره من قسم المعلوم لا أساس له.
على أن كثرة استعمال أهل اللغة العربية لهذين اللفظين في معنييهما مطلقا ، سواء كان مقطوعا بهما أو مظنونا يرجح ما نقول ، ومن هنا نجد أن الحنفية قد نقضوا أصلهم هذا ، واستعملوا الفرض فيما ثبت بظني ، والواجب فيما ثبت بقطعي ؛ كقولهم : الوتر فرض ، وتعديل الأركان فرض ؛ وكقولهم : الصلاة واجبة ، والزكاة واجبة.
والواقع أن الخلاف بين الحنفية وغيرهم خلاف لفظي وليس حقيقيا ؛ لأنهم جميعا متّفقون على أن ما ثبت بدليل ظني لا يكون في قوة ما ثبت بدليل قطعي ، وأن جاحد الأوّل لا يكفر ، بخلاف جاحد الثاني ؛ كما أنهم متفقون على تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة.
وإنما الخلاف بينهم في التسمية فقط ، فنحن نقول : إن الفرض والواجب لفظان مترادفان اصطلاحا ، نقلا عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد ، هو الفعل المطلوب طلبا جازما ، سواء ثبت ذلك بدليل قطعي أو ظني ، والحنفية يخصّون كلا منهما باسم خاص ، ويجعلونه اسما له ، وهذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.
ومقتضى كون الخلاف لفظيا : ألّا يكون له أثر في الفروع يترتب على الفرق بين الفرض والواجب ، وهو كذلك.
وما يظن من أن هذا الخلاف حقيقي ؛ لأن له أثرا ظهر في ترك قراءة الفاتحة في الصلاة ؛ حيث قيل بتأثيم التارك ، وعدم فساد صلاته إن أتى بقراءة غيرها ، بخلاف تارك القراءة فيها أصلا ، حيث قيل بتأثيمه وفساد صلاته ـ غير سديد ؛ لأن عدم الفساد عندهم ليس ناشئا من التفرقة بين الفرض والواجب ، وإنما هو ناشىء عن الدليل الذي دلّ المجتهد على الحكم ، وهو ظنية الدليل الذي تسبب عنه أمران : التسمية بالواجب ، وعدم الفساد ، ولا يلزم من سببية شيء ، لأمرين : أن يكون أحدهما سببا للآخر ، والذي كان في مقابلته الدليل القطعي الدالّ على فرضية مطلق القراءة الذي عدل عن الفاتحة إليها ، فقيل بعدم الفساد عملا بظنية دليل الفاتحة ، وقطعية دليل مطلق القراءة.
ينظر : الإحكام للآمدي ١ / ٩٢ ـ ٩٤ ، الإبهاج ١ / ٥٥ ، نهاية السول ١ / ٧٣ ، التمهيد للإسنوي ص (٥٨) ، المحصول ١ / ١ / ١١٧ ، البرهان ١ / ٣٠٨ ، المستصفى ١ / ٤٢ ، المنتهى لابن الحاجب ص (٢٣) ، كشف الأسرار ٢ / ٣٠٠ ، أصول السرخسي ١ / ١٠٠ ، المنخول ص (٧٦) ، فواتح الرحموت ـ