وقيل : جعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم ؛ حتى لا يوجد ما نهوا عنه.
قوله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فيه قولان :
أحدهما : أن المراد تزوّدوا من التّقوى ؛ لقوله (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فتحقيق [الكلام فيه : أنّ](١) الإنسان له سفران ، سفر في الدنيا ، وسفر من الدّنيا.
فالسّفر في الدنيا ، لا بدّ له من زاد ، وهو الطّعام ، والشّراب ، والمركب ، والمال.
والسّفر من الدنيا لا بدّ له ـ أيضا ـ من زاد ، وهو معرفة الله تعالى ومحبته والإعراض عمّا سواه ، وهذا الزاد خير من الزّاد الأوّل لوجوه :
أحدها : أنّ زاد الدّنيا [يخلصك من عذاب منقطع ، وزاد الآخرة يخلّصك من عذاب دائم ، وزاد الدّنيا](٢) يوصلك إلى لذّة ممزوجة بالآلام ، والبلايا ، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذّات باقية خالصة عن شوائب المضرّة ، وزاد الدنيا يوصلك إلى دنيا منقضية ، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة ، وهي كلّ ساعة من الإقبال ، والقرب ، والوصول غير منقضية وزاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشّهوة والنّفس وزاد الآخرة يوصلك إلى حضرة الجلال والقدس ؛ فلهذا قال : (خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني : إن كنتم من أولي الألباب الّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزاد ؛ لما فيه من كثرة المنافع ؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى : [الطويل]
٩٩٥ ـ إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى |
|
ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا |
ندمت على ألّا تكون كمثله |
|
وأنّك لم ترصد كما كان أرصدا (٣) |
والقول الثّاني : أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أناس من أهل اليمن (٤) ، كانوا يحجّون بغير زاد ، ويقولون : إنّا متوكّلون وكانوا يسألون (٥) وربما ظلموا الناس وغصبوهم ؛ فأمرهم الله تعالى أن يتزوّدوا ما يبلغون به ، فإنّ خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السّؤال ، وأنفسكم عن الظلم.
وعن ابن زيد ، أنّ بعض قبائل العرب كانوا يحرّمون الزاد في الحج ، والعمرة (٦) ؛ فنزلت الآية.
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) سقط في ب.
(٣) ينظر : الرازي ٥ / ١٤٤.
(٤) بالتحريك ، قيل : سميت «اليمن» ؛ لتيامنهم إليها لما تفرقت العرب من مكة ؛ كما سميت «الشام» لأخذهم الشمال ، والبحر : محيط بأرض اليمن من المشرق إلى الجنوب ، ثم راجعا إلى الغرب ينظر : مراصد الاطلاع ٣ / ١٤٨٣.
(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٤٤ ، والبغوي ١ / ١٧٣.
(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٤.