قال ابن الجوزيّ : قد لبس إبليس على قوم يدعون التوكّل ؛ فخرجوا بلا زاد ، وظنّوا أن هذا هو التوكّل وهم على غاية الخطأ ، قال رجل لأحمد بن حنبل : أريد أن أخرج إلى مكّة المشرفة على التوكّل بغير زاد ، فقال له أحمد : اخرج في غير القافلة. فقال : لا إلّا معهم ، فقال : على جرب النّاس توكلت (١).
وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ، ومعم أزودة رموا به ؛ فنهوا عن ذلك بهذه الآية الكريمة.
قال القاضي : فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه (٢) وجهان :
الأوّل : أنّ القادر على أن يستصحب المال في السفر إذا لم يستصحبه ، عصى الله تعالى في ذلك ، فبهذا الطّريق يصحّ دخوله تحت الآية الكريمة.
والثاني : أن يكون في الكلام حذف ، والمراد تزوّدوا لعاجل سفركم ، وللآجل ؛ فإنّ خير الزاد التقوى. وقيل : المعنى فإنّ خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة ، والحاجة إلى السؤال ، والتكفّف ، وألف «الزّاد» منقلبة عن «واو» لقولهم تزوّد.
قوله : «واتّقوني» أثبت أبو عمر «الياء» في قوله : «واتّقوني» على الأصل ، وحذف الآخرون ؛ للتخفيف ، ودلالة الكسرة عليه ، وفيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله ؛ وهو كقول الشّاعر : [الرجز]
٩٩٦ ـ أنا أبو النّجم وشعري شعري (٣)
قوله (يا أُولِي الْأَلْبابِ) اعلم أنّ لبّ الشيء ولبابه هو الخالص منه.
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٧٣.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ١٤٤.
(٣) الرجز لأبي النجم في أمالي المرتضى ١ / ٣٥٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٣٩ ، والخصائص ٣ / ٣٣٧ ، والدرر ١ / ١٨٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٦١٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٤٧ ، وشرح المفصل ١ / ٩٨ ، ٩ / ٣ ، والمصنف ١ / ١٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٢٩ ، ٥٩١٢ ، وأمالي الشجري ١ / ٢٢٤ ، والرازي ٥ / ١٤٤
والخبر الذي لا يغاير المبتدأ لفظا يذكر للدلالة على الشهرة ، أو عدم التغيير ؛ كالشاهد الذي معنا (شعري شعري) أي : المشهور المعروف بنفسه ، لا بشيء آخر ؛ كما يقال مثلا : شعري مليح ، وتقول : أنا أنا ما تغيرت عما كنت ، وقد صار البيت مثلا عند العلماء للتأويل المذكور ، فيما ظاهره الاتحاد بين الموضوع والمحمول ، قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) [الواقعة : ١] المراد : السابقون من عرفت حالهم ، وبلغك وصفهم ؛ كما في (شعري شعري) أي : شعري ما بلغك وصفه ، وحكمت ببراعته ، وفصاحته ، وصحّ إيقاع «أبي النجم» خبرا ؛ لتضمنه نوع وصفية ، واشتهار بالكمال ، والمعنى : أنا ذلك المعروف بالكمال ، وشعري هو الموصوف بالفصاحة.
«وشعري شعري» جملة من مبتدأ وخبر ، وعدم مغايرة إنما هو للدّلالة على الشهرة ، أي : شعري الآن هو شعري المشهور ، المعروف بنفسه لا بشيء آخر.