قوله : (فَإِذا أَفَضْتُمْ) العامل فيها جوابها ، وهو «فاذكروا» قال أبو البقاء (١) رحمهالله «ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها ، فيما قبلها ؛ لأنه شرط».
ومنع أبو حيّان من ذلك بما معناه : أنّ مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر ؛ لأنّ ذلك عرفات ، وهذا المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكان ، لزم منه اختلاف الزمان ضرورة ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا عند إنشاء الإفاضة.
قوله : «من عرفات» متعلّق ب «أفضتم» والإفاضة في الأصل : الصبّ ، يقال : فاض الإناء ، إذا امتلأ حتّى ينصبّ عن نواحيه. ورجل فيّاض ، أي : مندفق بالعطاء ؛ قال زهير : [الطويل]
٩٩٨ ـ وأبيض فيّاض يداه غمامة |
|
على معتفيه ما تغبّ فواصله (٢) |
وحديث مستفيض ، أي شائع.
ويقال : فاض الماء وأفضته ، ثم يستعمل في الإحرام مجازا. والهمزة في «أفضتم» فيها وجهان :
أحدهما : أنها للتعدية ، فيكون مفعوله محذوفا ، تقديره : أفضتم أنفسكم ، وهذا مذهب الزجاج ، وتبعه الزّمخشريّ (٣) ، وقدّره الزجاج فقال : معناه : دفع بعضكم بعضا والإفاضة : الاندفاع في السّير بكثرة ، ومنه يقال : أفاض البعير بجرته ، إذا وقع بها فألقاها منبثة ، وكذلك أفاض القداح في الميسر ، ومعناه : جمعها ، ثم ألقاها متفرّقة ، وإفاضة الماء من هذا ؛ لأنه إذا صبّ ، تفرّق ، والإفاضة في الحديث ، إنّما هو الاندفاع فيه بإكثار ، وتصرّف في وجوهه ؛ قال تعالى : (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١] ، قال بعضهم : وليس كذلك ؛ لما يأتي ، ومنه يقال للناس : فوض ، ومثلهم فوضى ، ويقال : أفاضت العين دمعها. فأصل هذه الكلمة : الدفع للشيء حتى يتفرق ، فقوله تعالى : «أفضتم» ، أي : دفعتم بكثرة ، وأصله : أفضتم أنفسكم ، فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم : دفعوا من موضع كذا ، وصبّوا.
والوجه الثاني : أنّ أفعل هنا ، بمعنى «فعل» المجرد فلا مفعول له. قال أبو حيّان : لأنه لا يحفظ : أفضت زيدا بهذا المعنى الذي شرحناه آنفا وأصل أفضتم : أفيضتم فأعلّ ؛ كنظائره ، بأن نقلت حركة حرف العلّة على السّاكن قبله فتحرّك حرف العلّة في الأصل ، وانفتح ما قبله ؛ فقلب ألفا ، وهو من ذوات الياء من الفيض ، كما تقدّم ، وليس من ذوات الواو من قولهم : فوضى الناس ، وهم أخلاط الناس بلا سائس.
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٧.
(٢) البيت ينظر ديوانه ص (١١١) الجنى الداني ص (٤٤١) ، اللسان «غيب».
(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٢٤٥.