اتّق الله ، فما زاده ذلك إلّا عتوّا ، فطعنه فأنفذه ، وذلك قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ : اتَّقِ اللهَ) يعني سلامان.
وأمّا زيد بن الدثنة ، فابتاعه صفوان بن أميّة ؛ ليقلته بأبيه ، أمية بن خلف ، فبعثه مع مولى له يسمّى نسطاس إلى التنعيم ، ليقتله ، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال له أبو سفيان حين قدّم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحبّ أنّ محمدا عندنا الآن بمكانك ، وتضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال : والله ما أحبّ أنّ محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : ما رأيت أحدا من الناس يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمّد محمّدا ، ثم قتله نسطاس.
فلمّا بلغ النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذا الخبر ، قال لأصحابه : «أيّكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة» فقال الزّبير أنا يا رسول الله ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجا يمشيان في الليل ، ويكمنان بالنهار ، حتّى أتيا التنعيم ليلا ، وإذا حول الخشبة أربعون رجلا من المشركين نائمون نشاوى ، فأنزلاه ، فإذا هو رطب ينثني ، لم يتغيّر بعد أربعين يوما ، ويده على جراحته ، وهي تبصّ دما اللون لون الدّم ، والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه ، وساروا ؛ فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا ، فأخبروا قريشا ، فركب منهه سبعون رجلا ، فلمّا لحقوهما قذف الزبير خبيبا ؛ فابتلعته الأرض فسمّي بليع الأرض ، وقال الزبير : ما جرّأكم علينا يا معشر قريش ، ثم رفع العمامة عن رأسه ، وقال : أنا الزّبير بن العوّام ، وأمّي صفيّة بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما ، فإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم. فانصرفا إلى مكّة ، وقدما على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وجبريل عنده ، فقال : يا محمد ، إنّ الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، فنزل في الزّبير والمقداد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٢٠٧] حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب عن خشبته (١).
وقال أكثر المفسّرين (٢) : نزلت في صهيب بن سنان ، مولى عبد الله بن جدعان الرّوميّ ، وفي عمّار بن ياسر ، وفي سميّة أمّه ، وفي ياسر أبيه ، وفي بلال مولى أبي بكر ، وفي خبّاب بن الأرت وفي عابس مولى حويطب ؛ أخذهم المشركون فعذّبوهم ؛ فقال لهم صهيب : إنّي شيخ كبير لا يضرّكم أمنكم كنت أم من عدوّكم فهل لكم أن تأخذوا مالي ، وتذروني؟ ففعلوا ، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة ، فأقام بمكة ما شاء الله ، ثم خرج إلى المدينة ، فتلقّاه أبو بكر وعمر في رجال فقال له أبو بكر : ربح بيعك يا أبا يحيى ؛ فقال : وبيعك فلا تخسر ما ذاك؟ فقال : أنزل الله فيك كذا وقرأ عليه الآية (٣).
__________________
(١) تقدم.
(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٢.
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣٠) وعزاه لابن مردويه عن صهيب الرومي.