فقاتل جتى قتل ، فقال بعض القوم : ألقى بيده إلى التّهلكة فقال عمر : كذبتم ، يرحم الله أبا فلان. وقرأ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(١) واعلم أنّ المشقّة التي يتحمّلها الإنسان لا بدّ وأن تكون على وفق الشّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، أمّا لو كان على خلاف الشرع فلا يدخل فيها ، بل يعدّ ذلك من إلقاء النّفس إلى التّهلكة ؛ كما لو خاف التّلف عند الاغتسال من الجنابة ففعل.
قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فمن رأفته (٢) أنه جعل النّعيم الدّائم جزاء على العمل القليل المنقطع ، ومن رأفته (٣) جوّز لهم كلمة الكفر إبقاء (٤) على النفس ، ومن رأفته أنّه لا يكلف نفسا إلّا وسعها ، ومن رأفته ورحمته أن المصرّ على الكفر مائة سنة ، إذا تاب ـ ولو في لحظة ـ أسقط عنه عقاب تلك السنين ، وأعطاه الثواب الدائم.
ومن رأفته أنّ النفس له والمال ، ثم إنّه يشتري ملكه بملكه ؛ فضلا منه ورحمة وإحسانا وامتنانا.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٠٩)
قوله تعالى : (السِّلْمِ) قرأ (٥) هنا «السّلم» بالفتح نافع ، والكسائيّ ، وابن كثير ، والباقون بالكسر ، وأمّا التي في الأنفال [آية ٦١] فلم يقرأها بالكسر إلّا أبو بكر وحده ، عن عاصم ، والتي في القتال [آية ٣٥] فلم يقرأها بالكسر إلّا حمزة وأبو بكر أيضا ، وسيأتي. فقيل : هما بمعنّى ، وهو الصلح مثل رطل ورطل وجسر وجسر وهو يذكّر ويؤنّث ، قال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) ، وحكوا : «بنو فلان سلم ، وسلم» ، وأصله من الاستسلام ، وهو الانقياد ، قال تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] الإسلام : إسلام الهدى ، والسّلم على الصّلح ، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى ؛ لأنّ كلّ واحد كصاحبه ، ويطلق على الإسلام قاله الكسائي وجماعة ؛ وأنشدوا : [الوافر]
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٥.
(٢) في ب : رحمته.
(٣) في ب : رحمته.
(٤) في ب : أيضا.
(٥) الصواب هنا العكس لا كما نقل المصنف ، فقد قرأ نافع ، والكسائي ، وابن كثير : بفتح السين والباقون بالكسر.
انظر : السبعة ١٨١ ، والحجة ٢ / ٢٩٢ ، وحجة القراءات ١٣٠ ، والعنوان ٧٣ ، وشرح شعلة ٢٨٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٥ ، ٩٦ ، وإتحاف ١ / ٤٣٥.