قال : وأمّا قول المجبّرة : إنّ الله تعالى زيّن ذلك فهو باطل ، لأنّ المزيّن للشيء كالمخبر على حسنه ، فإن كان صادقا ، فيكون ما زينه حسنا ، ويكون فاعله مصيبا ، وذلك يوجب أنّ الكفار مصيب في كفره ، وهذا القول كفر ، وإن كان كاذبا في ذلك التزيين ، فيؤدي إلى أن لا يوثق بخبره ، وهذا ـ أيضا ـ كفر ، فثبت أنّ المزيّن هو الشيطان.
قال ابن الخطيب (١) : وهذا ضعيف ، لأنّ قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يتناول جميع الكفّار ، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزيّن ، فلا بدّ وأن يكون ذلك المزيّن مغايرا لهم ؛ لأنّ غواة الجنّ والإنس داخلون في الكفار أيضا ، إلّا أن يقال : إن كلّ واحد يزيّن للآخر فيصير دورا ، فثبت ضعف هذا التأويل.
وأمّا قوله : «المزيّن للشّيء كالمخبر عن حسنه» فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفا بالزينة ، ثم لئن سلّمنا أنّ المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، بمعنى أنه أخبر عمّا فيها من اللّذّات والراحات ، وذلك الإخبار ليس بكذب ، وتصديقه ليس بكفر.
وقال أبو مسلم (٢) : يحتمل أنهم زيّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك؟ لا يريدون أنّ ذاهبا ذهب به ، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة : ٧٥] ، (أَنَّى يُصْرَفُونَ) [غافر : ٦٩] إلى غير ذلك ، وأكّده بقوله : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) [المنافقون : ٩] وأضاف ذلك إليهما ؛ لمّا كان كالسبب ولمّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا ، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيّن لنفسه.
قال ابن الخطيب (٣) : وهذا ضعيف ؛ لأنّ قوله : «زيّن للنّاس» يقتضي أنّ مزيّنا زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
التأويل الثالث : أنّ المزيّن هو الله تعالى ، ويدلّ عليه وجهان :
أحدهما : قراءة من قرأ «زيّن» مبنيّا للفاعل.
والثاني : قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] والقائلون بهذا ذكروا وجوها :
الأول : أنّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزّهرة والنضارة ، والطّيب ، واللّذّة ؛ ابتلاء لعباده ؛ كقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) إلى قوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) [آل عمران : ١٤ ، ١٥].
وقال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] ثم قال : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦] فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى: أنّ
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦.