الله تعالى جعل الدّنيا دار بلاء وامتحان ، وركّب في الطّباع الميل إلى اللذات ، وحبّ الشهوات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردّها عنه ؛ ليتمّ بذلك الامتحان ، وليجاهد المؤمن هواه ، فيقبض نفسه عن المباح ، ويكفّها عن الحرام.
الثاني : أنّ المراد ب «التّزيين» أنه أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى ب «التزيين».
الثالث : أنّه زيّن لهم المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا سقط الإشكال ، إلّا أنّ هذا ضعيف (١) ؛ لأن الله تعالى خصّ الكفّار ، وأيضا فإنّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات ، وكثرة ماله ، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدّر منغّص وأكبر غرضه أجر الآخرة ، إنما يعدّ الدنيا كالوسيلة إليها ، ولا كذلك الكافر ، فإنّه وإن قلّت ذات يده ، فسروره بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها.
وأيضا ، فإنّه تعالى أتبع الآية بقوله : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللّذات المحظورة ، وتحملهم المشاقّ الواجبة ، فدلّ ذلك على أنّ التزيين لم يكن في المباحات.
قال ابن الخطيب (٢) : ويتوجّه على المعتزلة سؤال ، وهو أنّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفّار لا بدّ له من محدث ، وإلا فقد وقع المحدث ، لا عن مؤثر فهذا محال ، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمّا أن يكون قد رجّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار ، لأنّ حال الاستواء لمّا امتنع حصول الرّجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحا أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع ، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنّه لا خروج عن النقيضين ، فهذا توجيه السؤال ، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة ، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال ، والأقوال.
قوله تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) مفعول «يشاء» محذوف ، أي : من يشاء أن يرزقه. و «بغير حساب» هذا الجارّ فيه وجهان :
أحدهما : أنه زائد.
والثاني : أنه غير زائد ، فعلى الأول لا تعلّق له بشيء ، وعلى الثاني هو متعلّق بمحذوف. فأما وجه الزيادة : فهو أنه تقدّمه ثلاثة أشياء في قوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) الفعل والفاعل والمفعول ، وهو صالح لأن يتعلّق من جهة المعنى بكلّ واحد منها ، فإذا
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧.