بالدليل ؛ لأنه أخبر عنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٧٤].
الثالث : حكي عنه أنه دعا أباه إلى التّوحيد ، وترك عبادة الأصنام بالرّفق حيث قال :(يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] وحكي في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد ، وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن ، ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله ، فإنه يقدّم الرّفق على العنف ، ولا يخوض في التّغليظ إلا بعد اليأس التام ، فدلّ على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه مرارا ، ولا شكّ أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهمّ نفسه ، فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السّموات والأرض ، ومن كان منصبه في الدّين كذلك ، وعلمه بالله كذلك ، فكيف يليق به أن يعتقد ألوهيّة الكواكب؟
الرابع : أنّ دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من وجوه كثيرة ، ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقلّ العقلاء نصيبا من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلا عن أعقل العقلاء ، وأعلم العلماء؟
الخامس : أنه قال في صفته (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات : ٨٤] وقال تعالى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) [الأنبياء : ٥١] أي : آتيناه رشده من قبل أوّل زمان الفكرة وقوله (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي بطهارته وكماله ، ونظيره قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].
السادس : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي : بسبب تلك الإراءة يكون من الموقنين ، ثم قال بعده : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) و «الفاء» تقتضي الترتيب ، فدلّت الفاء في قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) على أن هذه الواقعة حصلت بعد أن صار من الموقنين العارفين بربّه.
السابع : أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه ، لأنه ـ تعالى ـ لما ذكر هذه القصّة قال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] ولم يقل : على نفسه ، فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه ؛ لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد ، لا لأجل أن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ كان يطلب الدّين والمعرفة لنفسه.
الثامن : أن قولهم : إن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والشمس والقمر حال كونه في الغار باطل ؛ لأن لو كان الأمر كذلك ، فكيف يقول : يا قوم إني بريء مما تشركون ، مع أنه كان في الغار لا قوم ولا صنم.
التاسع : قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٨٠].
فكيف يحاجّونه وهم لم يروه ولم يرهم ، وهذا يدلّ على أنه ـ عليه الصّلاة والسلام