تكلم إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بهذه الكلمات ليظهر من نفسه موافقة القوم ، حتى إذا أورد عليهم الدّليل المبطل لقولهم ، كان قبولهم لذلك الدليل أتمّ ، وانتفاعهم به أكمل ، ويقوي هذا الوجه أنه ـ تعالى ـ حكى عنه مثل هذا الطريق في قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) [الصافات : ٨٨ ـ ٩٠].
وذلك لأنهم كانوا يستدلّون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة ، فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظّاهر ، مع أنه كان بريئا عنه في الباطن ، ومقصوده أن يتوسّل بهذا الطريق إلى كسر الأصنام ، فإذا جازت الموافقة في الظاهر هاهنا مع كونه بريئا عنه في الباطن ، فلم لا يجوز أن يكون في مسألتنا كذلك؟
وأما الاحتمال الثاني : فهو أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ذكر هذا الكلام قبل البلوغ ، وتقريره أن يقال : كان قد خصّ إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بالعقل الكامل ، والقريحة الصّافية ، فخطر بباله قبل بلوغه إثبات الصانع ـ تعالى ـ فتفكّر فرأى النجوم ، فقال : (هذا رَبِّي) فلمّا شاهد حركاته قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ثم إنه ـ تعالى ـ أكمل بلوغه في قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
والاحتمال الأول أولى بالقبول ؛ لما ذكرنا من الدلائل.
فإن قيل : إن إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ استدلّ بأفول الكواكب ، على أنه لا يجوز أن يكون ربّا له ، والأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره فيدلّ على الحدوث من حيث إنه حركة ، وعلى هذا التقدير فيكون الطّلوع أيضا دليلا على الحدوث ، فلم ترك إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ الاستدلال على حدوثها بالطلوع ، وعوّل في إثبات هذا المطلوب على الأفول؟
الجواب : أن الطلوع والأفول يشتركان في الدلالة على الحدوث ، إلا أن الدّليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بدّ وأن يكون ظاهرا ، بحيث يشترك في فهمه الذّكيّ والغبيّ ، والعاقل والغافل ، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينيّة إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق ، أما دلالة الأفول على هذا المقصود ، فإنها ظاهرة يعرفها كل أحد ، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول ، فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتمّ ، وأيضا فيحتمل أنه إنما استدلّ بالأفول من حيث إن الأفول غيبوبة ، فإن الإله المعبود العالم العادل لا يغيب ، ولهذا استدلّ بظهور الكواكب ، وبزوغ القمر والشمس على الإلهية ، واستدلّ بأفولهم على عدم الإلهية ، ولم يتعرض للاستدلال بالحركة ، وهل هي تدلّ على الحدوث أم لا؟
قال ابن الخطيب : وفيه دقيقة (١) وهو أنه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ إنما كان يناظرهم
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٤٣ ـ ٤٤.