عليه الصّلاة والسّلام : «إن غمّ عليكم فاقدروا له» أي : فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة ، ثم يقال لمن عرف شيئا : هو يقدر قدره ، وإن لم يعرفه بصفاته : إنه لا يقدر قدره ، فقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) صحيح في كلّ المعاني المذكورة (١) ولما حكى عنهم أنهم ما قدروا الله حقّ قدره بيّن السّبب فيه ، وهو قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).
واعلم أن كلّ من أنكر النّبوّة والرّسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حقّ معرفته ، وتقديره من وجوه :
الأول : أن منكر البعث والرسالة إما أن يقول : إنه ـ تبارك وتعالى ـ ما كلّف أحدا من الخلق [تكليفا أصلا](٢) أو يقول : إنه ـ تبارك وتعالى ـ كلّفهم ، والأول باطل ؛ لأن ذلك يقتضي أنه ـ تبارك وتعالى ـ أباح لهم جميع المنكرات والقبائح ، نحو [شتم](٣) الله ووصفه بما لا يليق به والاستخفاف بالأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ والرسل ، والإعراض عن شكر الله ـ تعالى ـ ومقابلة الإنعام بالإساءة ، وكل ذلك باطل.
وإن سلم أنه ـ تعالى ـ كلّف الخلق بالأمر [والنهي فهاهنا لا بدّ](٤) من مبلّغ وشارع مبيّن ، وما ذلك إلّا للرّسول.
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال : العقل كاف في إيجاب الموجبات ، واجتناب المقبحات؟
فالجواب : هب أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فثبت أن كل من منع من البعثة والرسالة ، فقد طعن في حكمة الله ـ تعالى ـ وكان ذلك جهلا بصفة الإلهية ، وحينئذ يصدق في حقه قوله تبارك وتعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
والوجه الثاني في تقرير هذا المعنى : أن من الناس من يقول : إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل عليهم الصّلاة والسلام ؛ لأن يمتنع [إظهار](٥) المعجزة على وفق دعواه تصديقا له ، والقائلون بهذا القول لهم مقامات.
أحدها : أن يقولوا : إنه ليس في الإمكان خرق العادات ، ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة.
والثاني : يسلمون إمكان ذلك ، إلّا أنهم يقولون : إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات ، فلا دلالة لها على صدقه من الرسالة ، وكلا القولين يوجب القدح في كمال قدرة الله ـ تعالى ـ.
__________________
(١) ينظر : المصدر السابق.
(٢) سقط في أ.
(٣) سقط في أ.
(٤) في أ : النفي فيها هنا لا بد.
(٥) سقط في أ.