حتّى نسألهم أحقّ ما تقوله أم باطل ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، أي : كفيلا بما تدّعيه ، فنزلت هذه الآية الكريمة (١).
وهذا يشكل باتّفاقهم على أنّ هذه السّورة نزلت دفعة واحدة ، بل الّذي ينبغي أن يكون المقصود منه : جواب ما ذكره بعضهم ، وهو أنّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، لو جاءتهم آية ليؤمننّ بها ، فذكر الله ـ تبارك وتعالى ـ هذا الكلام بيانا لكونهم كاذبين ، وأنّه لا فائدة في إنزال الآيات ، وإظهار المعجزات بعد المعجزات ، بل المعجزة الواحدة لا بد منها ليتميّز الصّادق عن الكاذب ، فأمّا الزيادة عليها ، فتحكم محض لا حاجة إليه ، وإلّا فلهم أن يطلبوا بعد ظهور المعجزة الثّانية ثالثة ، وبعد الثّالثة رابعة ، ويلزم منه ألّا تستقرّ الحجة ، وأن لا ينتهي الأمر إلى مقطع ومفصل ، وذلك يوجب سدّ باب النّبوات.
قوله : «قبلا» قرأ (٢) نافع ، وابن عامر : «قبلا» هنا وفي الكهف بكسر القاف ، وفتح الباء ، والكوفيّون هنا وفي الكهف بضمّها وأبو عمرو ، وابن كثير بضمّها هنا ، وكسر القاف ، وفتح الباء في الكهف ، وقرأ الحسن البصري ، وأبو حيوة ، وأبو رجاء بالضّمّ والسّكون.
وقرأ أبيّ والأعمش «قبيلا» بياء مثنّاة من تحت بعد باء موحّدة مكسورة ، وقرأ طلحة بن مصرّف : «قبلا» بفتح القاف وسكون الباء.
فأما قراءة نافع ، وابن عامر ففيها وجهان :
أحدهما : أنّها بمعنى مقابلة ، أي : معاينة ومشاهدة ، وانتصابه على هذا الحال قاله أبو عبيدة(٣) ، والفرّاء (٤) ، والزّجّاج (٥) ، ونقله الواحدي أيضا عن جميع أهل اللّغة ، يقال : «لقيته قبلا» أي عيانا.
وقال ابن الأنباري : قال أبو ذرّ : قلت للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم أنبيّا كان آدم؟ فقال : نعم ، كان نبيّا كلّمه الله قبلا (٦) وبذلك فسّرها ابن عبّاس ، وقتادة ، وابن زيد ، ولم يحك الزّمخشري غيره ، فهو مصدر في موضع الحال كما تقدّم.
والثاني : أنّها بمعنى ناحية وجهة قاله المبرّد ، وجماعة من أهل اللّغة كأبي زيد ، وانتصابه حينئذ على الظّرف ، كقولهم : «لي قبل فلان دين» و «ما قبلك حقّ» ، ويقال :
__________________
(١) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (١٣ / ١٢٣) عن ابن عباس.
(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٩ ، الحجة لأبي زرعة ٢٦٧ السبعة ٢٦٦ ، النشر ٢ / ٢٦٢ المشكل ١ / ٢٦٥ التبيان ١ / ٥٣٢ معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣١١ للفراء ١ / ٣٥١ للأخفش ٢ / ٥٠١ إعراب القراءات ١ / ١٦٧.
(٣) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٢٠٤.
(٤) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥١.
(٥) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١١.
(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥١) وعزاه لعبد بن حميد والآجري في الأربعين من حديث أبي ذر.