أحدهما : هو رسل وجاز ذلك وإن كان نكرة ؛ لتخصّصه بالوصف.
والثاني : أنه الضّمير المستتر في «منكم» وقوله : (رُسُلٌ مِنْكُمْ) زعم الفرّاء : أن في هذه الآية حذف مضاف ، أي : «ألم يأتكم رسل من أحدكم ، يعني : من جنس الإنس» قال : كقوله ـ تعالى ـ : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ، وإنما يخرجان من الملح (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] ، وإنما هو في بعضها ، فالتّقدير : يخرج من أحدهما ، وجعل القمر في إحداهنّ فحذف للعلم به ، وإنما احتاج الفرّاء إلى ذلك ؛ لأن الرّسل عنده مختصّة بالإنس ، يعني : أنه لم يعتقد أنّ الله أرسل للجنّ رسولا منهم ، بل إنما أرسل إليهم الإنس ، كما يروى في التّفسير ، وعليه قام الإجماع أن النّبي محمدا صلىاللهعليهوسلم مرسل للإنس والجنّ ، وهذا هو الحقّ ، أعني : أن الجنّ لم يرسل منهم إلا بواسطة رسالة الإنس ؛ كما جاء في الحديث مع الجنّ الذين لمّا سمعوا القرآن ولّوا إلى قومهم منذرين ، ولكن لا يحتاج إلى تقدير مضاف ، وإن قلنا : إن رسل الجنّ من الإنس للمعنى الذي ذكرناه ، وهو أنه يطلق عليهم رسل مجازا ؛ لكونهم رسلا بواسطة رسالة الإنس ، وزعم قوم منهم الضّحّاك : أن الله أرسل للجنّ رسولا منهم يسمّى يوسف (١).
قال ابن الخطيب : ودعوى الإجماع في هذا بعيد ؛ لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف ، قال : ويمكن أن يحتجّ الضحّاك بقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩٢].
قال المفسّرون : والسّبب فيه أن استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك ، فوجب في حكم الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يجعل رسل الإنس من الإنس ؛ ليكمل الاستئناس ، وهذا المعنى حاصل في الجنّ ، فوجب أن يكون رسل الجنّ من الجنّ ؛ لتزول النّفرة ويحصل كمال الاستئناس.
وقال الكلبي : كانت الرّسل قبل أن يبعث محمّد صلىاللهعليهوسلم يبعثون إلى الجنّ وإلى الإنس جميعا (٢).
وقال مجاهد : الرّسل من الإنس والنّذر من الجنّ ، ثم قرأ [قوله ـ تعالى ـ] : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)(٣) [الأحقاف : ٢٩] ، وهم قوم يسمعون كلام الرّسل فيبلّغون الجنّ ما سمعوا ، وليس للجنّ رسل.
ثم قال : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي : يقرءون عليكم كتبي (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وهو يوم القيامة ، فلم يجدوا عند ذلك إلا الاعتراف ، فذلك قالوا : شهدنا على أنفسنا.
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٦٠.
(٢) انظر : «البحر المحيط» (٤ / ٢٢٦).
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.