والثاني : أنّها مفعول به ، والعامل فيه : «واتّقوا» أي : واتّقوا قولكم كيت وكيت ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) معترض جار مجرى التّعليل ، وعلى كونه مفعولا من أجله ، يكون تقديره عند البصريّين على حذف مضاف ، تقديره : كراهة أن تقولوا ، وعند الكوفيّين يكون تقديره : «ألّا يقولوا».
قال الكسائيّ (١) ، والفرّاء : والتقدير : أنزلناه لئلا تقولوا ، ثم حذف الجارّ ، وحرف النّهي ، كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، وكقوله : (رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] ، أي ألّا تميد بكم ، وهذا مطّرد عندهم في هذا النّحو ، وقد تقدّم ذلك مرارا.
وقرأ الجمهور : «تقولوا» بتاء الخطاب ، وقرأ (٢) ابن محيصن : «يقولوا» بياء الغيبة ، ومعنى الآية الكريمة : كراهة أن يقول أهل مكّة : أنزل الكتاب ، وهو التّوراة ، والإنجيل على طائفتين من قبلنا ، وهم اليهود والنّصارى.
قوله : (وَإِنْ كُنَّا) [«إن»] مخفّفة من الثّقيلة عند البصريّين ، وهي هنا مهملة ؛ ولذلك وليتها الجملة الفعليّة ، وقد تقدّم تحقيق ذلك ، وأنّ الكوفيّين يجعلونها بمعنى : «ما» النّافية ، واللام بمعنى : «إلّا» ، والتقدير : ما كنّا عن دراستهم إلّا غافلين.
وقال الزّجّاج (٣) بمثل ذلك ، فنحا نحو الكوفيّين.
وقال قطرب : «إن» بمعنى «قد» واللّام زائدة.
وقال الزّمخشري (٤) بعد أن قرّر مذهب البصريين كما قدّمنا : «والأصل : إنه كنّا عن عبادتهم» فقدّر لها اسما محذوفا ، هو ضمير الشّأن ، كما يقدّر النّحويّون ذلك في «أن» بالفتح إذا خفّفت ، وهذا مخالف لنصوصهم ، وذلك أنّهم نصّوا على أنّ : «إن» بالكسر إذا خفّفت ، وليتها الجملة الفعلية النّاسخة ، فلا عمل لها ، لا في ظاهر ولا مضمر.
و (عَنْ دِراسَتِهِمْ) متعلّق بخبر «كنّا» وهو : «غافلين» ، وفيه دلالة على بطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى : «إلّا» ، ولا يجوز أن يعمل ما بعد «إلّا» فيما قبلها ؛ فكذلك ما هو بمعناها.
قال أبو حيّان (٥) : «ولهم أن يجعلوا «عنها» متعلّقا بمحذوف» وتقدّم أيضا خلاف أبي عليّ ، في أنّ هذه اللّام ليست لام الابتداء ، بل لام أخرى ، ويدلّ أيضا على أن اللّام لام ابتداء لزمت للفرق ، فجاز أن يتقدّم معمولها عليها ، لمّا وقعت في غير ما هو لها
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٥.
(٢) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٣٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٢٢.
(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٣٨.
(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٨١.
(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥٧.