فإن قيل : المقابل للخير هو الشّر ، فكيف عدل عن لفظ الشّرّ؟ والجواب أنه أراد تغليب الرحمة على ضدّها ، فأتى في جانب الشّرّ بأخصّ منه وهو الضّرّ ، وفي جانب الرّحمة بالعام الذي هو الخير تغليبا لهذا الجانب.
قال ابن عطية (١) : ناب الضّرّ مناب الشّرّ ، وإن كان الشّرّ أعمّ منه ، فقابل الخير. وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكليف والصيغة ، فإن باب التكليف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترنا [بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة فمن ذلك](٢)(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٨ ـ ١١٩] فجاء بالجوع مع العري ، وبابه أن يكون مع الظّمأ.
ومنه قول امرىء القيس : [الطويل]
٢١١٩ ـ كأنّي لم أركب جوادا للذّة |
|
ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال |
ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل |
|
لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال (٣) |
ولم يوضّح ابن عطيّة ذلك ، وإيضاحه في آية «طه» اشتراك الجوع والعرى في شيء خاص وهو الخلوّ ، فالجوع خلوّ وفراغ من الباطن ، والعري خلوّ وفراغ من الظّاهر ، واشتراك الظّمأ والضّحى في الاحتراق ، فالظّمأ احتراق في الباطن ، ولذلك تقول : «بردّ الماء حرارة كبدي وأوام (٤) عطشي».
والضّحى : احتراق الظّاهر.
وأمّا البيتان ، فالجامع بين الرّكوب للذّة وهو الصيد وتبطّن الكاعب اشتراكهما في لذّة الاستعلاء ، والقهر والاقتناص والظّفر بمثل هذا المركوب ، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة «ركبا» ، بفتح الراء والكاف ، وهو فعل بمعنى مفعول كقوله : [الرجز]
٢١٢٠ ـ إنّ لها لركبا إرزبّا |
|
كأنّه جبهة ذرّى حبّا (٥) |
وأمّا البيت الثاني فالجامع بين سبأ الخمر ، والرّجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل ، فشراء الخمر بذل المال ، والرجوع بعد الانهزام بذل الروح.
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٧٤ ، الدر المصون ٣ / ٢٥.
(٢) سقط في أ.
(٣) ينظر البيتان في ديوانه (٣٥) ، العمدة ١ / ٢٥٩ ، الوساطة ١٩٥ ، حاشية الشيخ يس ١ / ٢٢٠ والمحرر الوجيز ٢ / ٢٧٤ والبيت الأول في التصريح ١ / ١١٢ ، التهذيب «نبط» الدر المصون ٣ / ٢٥.
(٤) في ب : أروى.
(٥) ينظر : جمهرة اللغة ص (٣٠٨) شرح المفصل ١ / ٢٨ ، الكتاب ٣ / ٣٢٦ ، لسان العرب (حبب) ، (رزب) ، ما ينصرف وما لا ينصرف ص (١٢٣) ، مجالس ثعلب ١ / ٢٠٢ ، المقتضب ٤ / ٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٦.