ولكن حيث لا ينفعهم الصّدق ، فلتعلّق أحد الأمرين بالآخر ، أظهر الله ـ تعالى ـ للرسول ذلك(١).
القول الثاني ـ قول جمهور المفسرين ـ : أن الكفار يكذبون في القيامة واستدلّوا بوجوه :
أحدها : ما حكى الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [المؤمنون : ١٠٧] مع أنه ـ تعالى ـ أخبر عنهم بقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].
وثانيها : قوله تبارك وتعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] بعد قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.
وثالثها : ما حكاه ـ تعالى ـ عنهم : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف : ١٩].
والجواب عما قاله الجبّائي بأن يحمل قولهم ما كانوا مشركين في ظنونهم ، هذا مخالف للظّاهر ، ثمّ قوله بعد ذلك : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) بأنه محمول على كذبهم في الدنيا يوجب تفكيك نظم الآية ، وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة ، وصرف آخرها إلى أحوال الدنيا ، وهو في غاية البعد(٢).
وقولهم : كذبوا في حال كمال العقل ، وحال نقصانه ، فنقول : لا يبعد أنهم حال ما عاينوا أهوال القيامة ، وشاهدوا موجبات الخوف الشديد اختلّت عقولهم ، فذكروا هذا الكلام.
قولهم : كيف يليق بحكمة الله ـ تعالى ـ أن يحكي عنهم ما ذكروه في حال اضطراب العقول؟
فالجواب : هذا يوجب الخوف الشديد وذلك في دار الدنيا وأمّا قولهم : إنّ المكلفين لا بدّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول : اختلال عقولهم ساعة واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمال عقولهم في سائر الأوقات (٣).
قوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) «كيف» منصوب على حدّ نصبها في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨] وقد تقدّم.
و «كيف» وما بعدها في محل نصب ب «انظر» ؛ لأنها معلقة لها عن العمل. و «كذبوا»
__________________
(١) ينظر : المصدر السابق.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٣.
(٣) ينظر : المصدر السابق.