وجب أن يكونوا ملجئين إلى ألّا يفعلوا القبيح ، وذلك يقتضي ألّا يقدم أحد من أهل القيامة على الكذب ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنهم لما أقدموا على فعل القبيح ؛ لأنهم لمّا عاينوا أهوال يوم القيامة اضطربت عقولهم ، فقالوا هذا الكذب عند اختلال عقولهم ، أو يقال : إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا؟
فالجواب عن الأوّل : أنه لا يجوز أن يحشرهم ويوبخهم بقوله : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)؟ ثم يحكي اعتذارهم مع أنهم غير عقلاء ، هذا لا يليق بحكمة الله تعالى.
وأيضا فلا بدّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم فيما يعاملهم الله به غير مظلومين. والجواب على الثاني : أنّ نسيانهم لما كانوا عليه طول عمرهم في دار الدنيا مع كمال العقل [بعيد](١) ، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور.
الوجه الثاني : أنّ هؤلاء الذين أقدموا على الكذب إمّا أن يقال : إنهم عقلاء أو غير عقلاء ، فالثاني باطل ؛ لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر وإن كانوا عقلاء يعلمون أنّ الله عالم أحوالهم مطّلع على أفعالهم ، ويعلمون أنّ تجويز الكذب على الله ـ تعالى ـ محال ، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلّا زيادة المقت والغضب ، وإذا كان كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب (٢).
الوجه الثالث : أنهم لو كذبوا في موقف القيامة ، ثمّ حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على نوعين من القبيح ، فإن قلنا : إنهم يستحقّون بذلك العقاب ، صارت الدار الآخرة دار تكليف ، وأجمعوا على أنّ الأمر ليس كذلك.
وإن قلنا : إنّهم لا يستحقّون على ذلك الكذب ، ولا على ذلك الحلف الكاذب عقابا ، فهذا يقتضي حصول الإذن من الله ـ تعالى ـ في ارتكاب القبائح ، وذلك باطل فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدام أهل القيامة على القبيح والكذب ، وإذا ثبت هذا فيحمل قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) في اعتقادنا وظنوننا ؛ لأن القوم يعتقدون (٣) ذلك.
فإن قيل : فعلى هذا التقدير يكونون صادقين في قولهم ، فلماذا قال تبارك وتعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) فالجواب أنه ليس يجب من قوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) أنهم كذبوا فيما تقدّم ذكره من قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، بل يجوز أن يكون المراد (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) في دار الدّنيا في أمور يخبرون عنها بأنّ ما هم عليه ليس بشرك ، وأنهم على صواب ونحوه ، فالمقصود من قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) اختلاف الحالتين ، وأنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون ، وأنهم في الآخرة يتحرّزون عن الكذب ،
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥١.
(٣) ينظر : المصدر السابق.