بقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أي : لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها حقّ ، وقرن الثالثة بقطع الله ـ تعالى ـ حجّة من خاض من اليهود في أمر القبلة ، فكانت هذه عللا ثلاثا قرن بكل واحدة منها أمرا بالتزام القبلة.
نظيره أن يقال : الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها ، ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى ، وهو قوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك ، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٦] وكذلك ما كرر في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٨].
وخامسها : أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النّسخ فيها في شرعنا ، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير ، وإزالة الشبهة ، وإيضاح البينات.
أما قوله سبحانه وتعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يعني : ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق ، وهم يعرفونه ، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] وبأنه قد اشتاق إلى مولده ، ودين آبائه ، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله. [وقد تقدم الكلام على نفي الغفلة وعدم ذكر العلم](١).
قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) هذه لام «كي» بعدها «أن» المصدرية الناصبة للمضارع ، و «لا» نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه ، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ) [الأنفال : ٧٣] و «أن» هنا واجبة الإظهار ، إذ لو أضمرت لثقل اللّفظ بتوالي لامين ، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ).
وقال أبو البقاء : متعلّقة بمحذوف تقديره : فعلنا ذلك لئلا ، ولا حاجة إلى ذلك ، و «للناس» خبر ل «يكون» مقدّم على اسمها ، وهو «حجّة» ، و «عليكم» في محل نصب على الحال ؛ لأنه في الأصل صفة النكرة ، فلما تقدم عليها انتصب حالا ، ولا يتعلق ب «حجة» لئلّا يلزم تقديم معمول المصدر عليه ، وهو ممتنع ؛ لأنه في تأويل صلة وموصول ، وقد قال بعضهم : يتعلّق ب «حجة» وهو ضعيف ، ويجوز أن يكون «عليكم» خبرا ل «يكون» ، ويتعلق «للناس» ب «يكون» على رأي من يرى أن «كان» الناقصة تعمل في الظرف وشبهه ، وذكر الفعل في قوله «يكون» ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي ، وحسن ذلك الفصل أيضا. [وقال أبو روق : المراد ب «النّاس» : أهل الكتاب.
ونقل عن قتادة والربيع : أنهم وجدوا في كتابهم أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحوّل إلى القبلة ، فلما حوّلت بطلت حجّتهم.
__________________
(١) سقط في ب.