قوله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ).
قرأ (١) نافع ، والكسائي «لا يكذبونك» مخفّفا من «أكذب».
والباقون (٢) مثقّلا من «كذّب» وهي قراءة عليّ ، وابن عبّاس.
واختلف الناس في ذلك ، فقيل : هما بمعنى واحد ، مثل : أكثر وكثّر وأنزل ونزّل ، وقيل : بينهما فرق.
قال الكسائي : العرب تقول : كذّبت الرجل بالتّشديد إذا نسب الكذب إليه ، وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه ، ويقولون أيضا : أكذبت الرّجل إذا وجدته كاذبا ، ك «أحمدته» إذا وجدته محمودا ، فمعنى لا يكذبونك مخفّفا : لا ينسبون الكذب إليك ولا يجدونك كاذبا وهو واضح.
وأمّا التّشديد فيكون خبرا محضا عن عدم تكذيبهم إيّاه.
فإن قيل : هذا محال ؛ لأن بعضهم قد وجد منه تكذيب ضرورة.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنّ هذا وإن كان منسوبا إلى جميعهم أعني عدم التكذيب ، فهو إنما يراد بعضهم مجازا ، كقولك : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) [الشعراء : ١٠٥] (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) [الشعراء : ١٦٠] وإن كان فيهم من لم يكذبه ، فهو عامّ يراد به الخاصّ.
والثاني : أنه نفي للتكذيب لانتفاء ما يترتّب عليه من المضارّ ، فكأنه قيل : فإنهم لا يكذبونك تكذيبا يبالى به ويضرك ؛ لأنك لست بكاذب ، فتكذيبهم كلا تكذيب ، فهو من نفي السّبب لانتفاء مسببه.
وقال الزمخشري (٣) : والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله تعالى ؛ لأنك رسوله المصدّق ، فهم لا يكذبونك في الحقيقة ، إنّما يكذّبون الله بجحود آياته ، فانته عن حزنك ، كقول السّيّد لغلامه وقد أهانه بعض الناس لم يهينوك وإنما أهانوني ، فهو نظير قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].
الثالث : أن القوم ما كانوا يكذّبون به في السّرّ كما تقدّم في سبب النزول ، فيكون تقدير الآية: فإنّهم لا يكذّبونك بقلوبهم ، بل بظاهر قولهم.
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٨ ، البحر المحيط ٤ / ١١٦ ، حجة القراءات ص (٢٤٧) ، الكشاف ٢ / ١٨ ، النشر ٢ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، اتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠.
(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٨ ، البحر المحيط ٤ / ١١٦ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٢٦٥ ـ ٢٢٦ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٤٧ ـ ٢٤٩) السبعة ص (٢٥٧) ، النشر ، ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، التبيان ١ / ٤٩١ ، الزجاج ٢ / ٢٦٦ ، المشكل ١ / ٢٥١ ، الفراء ١ / ٣٣١ ، الحجة لابن خالويه ص (١٣٨).
(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨.