وجعل أبو البقاء (١) على هذا الوجه (مِنْ قَرْنٍ) هو المفعول به ، و «من» مزيدة فيه ، وجاز ذلك ؛ لأن الكلام غير موجب ، والمجرور نكرة ، إلّا أنّ أبا حيّان منع ذلك بأنّه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت : «كم أزمانا ضربت رجلا» أو كم مرة ضربت رجلا لم يكن مدلول رجل رجالا ، لأنّ السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرّات التي ضربت فيها ، وبأن هذا ليس موضع زيادة «من» لأنّها لا تزاد في الاستفهام ، إلّا وهو استفهام محض أو يكون بمعنى النّفي ، والاستفهام هنا ليس محضا ولا مرادا به النفي. انتهى.
قال شهاب الدّين (٢) : وجوابه لا يسلم.
و «قرن» الجماعة من النّاس وجمعه «قرون».
وقيل : القرن مدّة من الزمان ، يقال : ثمانون سنة ، [ويقال : ستّون سنة](٣) ، ويقال : أربعون سنة ، ويقال : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة ؛ لما روي أنّه ـ عليهالسلام ـ قال لعبد الله بن بشر المازني : «تعيش قرنا» فعاش مائة سنة ، فيكون معنى الآية على هذه الأقاويل من أهل قرن ؛ لأنّ القرن الزمان ، ولا حاجة إلى ذلك إلّا على [اعتقاد](٤) أنه حقيقة فيه مجاز في النّاس ، وسيأتي بيان أن الراجح خلافه.
وعلى القول الأوّل : هم القوم المقترنون واشتقاقه من الاقتران ، قاله الواحدي (٥) ـ رحمهالله ـ ، وسيأتي بقيّة الكلام عليه في الصّفحة الثانية.
قوله : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) في موضع جرّ صفة ل «قرن» ، وعاد الضمير عليه جمعا باعتبار معناه.
قاله أبو البقاء (٦) ـ رضي الله عنه ـ ، والحوفي رحمهالله. وضعّفه أبو حيان (٧) بأن (مِنْ قَرْنٍ) تمييز ل «كم» ، ف «كم» هي المحدّث عنها بالإهلاك ، فهي المحدّث عنها بالتّمكين لا ما بعدها ؛ إذ (مِنْ قَرْنٍ) يجري مجرى التّبيين ، ولم يحدّث عنه.
وجوّز أبو حيّان (٨) ـ رحمهالله تعالى ـ أن تكون هذه الجملة استئنافا جوابا لسؤال مقدّر ، قال : كأنّه قيل : ما كان من حالهم؟ فقيل : مكّنّاهم ، وجعله هو الظّاهر ، وفيه نظر ، فإنّ النكرة مفتقرة للصّفة فجعلها صفة أليق ، والفرق بين قوله تبارك وتعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) وقوله : (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) [أن «مكنه في كذا» أثبته فيها ، ومنه (وَلَقَدْ
__________________
(١) ينظر : الإملا ١ / ٢٣٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٨٠ ، والدر المصون ٣ / ١٠.
(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠.
(٣) سقط في ب.
(٤) سقط في أ.
(٥) ينظر : الرازي ٢ / ١٣١.
(٦) ينظر : الإملا ١ / ٢٣٥.
(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨١.
(٨) ينظر : السابق.