ذلك يبطل التّكليف ، ويخرج الإنسان عن استحقاق الثّواب.
والجواب من وجوه :
أحدها : أنه ـ تبارك وتعالى ـ ما شاء منهم أن يحملهم على الإيمان على سبيل القهر وهو الذي أقدر الكافر على الكفر فقدرة الكفر إن لم تصلح للإيمان ، فخالق تلك القدرة لا شكّ أنه كان مريدا للكفر ، فإن كانت صالحة للإيمان ، لم يترجّح جانب الكفر على جانب الإيمان ، إلّا عند حصول داع يدعو إلى الإيمان ، وإلّا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر [لا](١) لمرجّح. وهو محال ، ومجموع القدرة مع الدّاعي إلى الكفر ، يوجب الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدّاعي هو الله ـ تعالى ـ ، وثبت أنّ مجموعهما يوجب الكفر ، ثبت أنّ الله ـ تعالى ـ أراد الكفر من الكافر.
وثانيها : أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ كان عالما بعدم الإيمان من الكافر ، ووجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان متضادّان ، ومع وجود أحد الضّدّين كان حصول الضدّ الثاني محالا ، ومع العلم بكونه محالا غير مراد ، فامتنع أن يقال : إنه ـ تعالى ـ يريد الإيمان من الكافر.
وثالثها : هب أن الإيمان الاختياري أفضل وأنفع من الإيمان الحاصل بالجبر والقهر ، إلّا أنّه ـ تعالى ـ لما علم أنّ ذلك النّفع لا يحصل ألبتّة ، فقد كان يجب في رحمته وحكمته ، أن يخلق فيهم الإيمان على سبيل الإلجاء ؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يوجب الثّواب العظيم ، فأقل ما فيه أن يخلّصه من العقاب العظيم ، وترك إيجاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلجاء ، يوجب وقوعه في أشدّ العذاب ، وذلك لا يليق بالرّحمة والإحسان ، كما إنّ الوالد إذا كان له ولد عزيز ، وكان الأب في غاية الشّفقة ، وكان الولد واقفا على طرف البحر ، فيقول له الوالد : غص في قعر هذا البحر ؛ لتستخرج اللآلىء العظيمة الرّفيعة الغالية ، وعلم الوالد قطعا أنّه إذا غاص في البحر ، هلك ، فهذا الأب وإن كان مشفقا عليه ، وجب عليه أن يمنعه من الغوض في قعر البحر ، ويقول له : اترك طلب اللآلىء ؛ فإنّك لا تجدها وتهلك ، والأولى لك أن تكتفي بالرّزق القليل مع السّلامة ، فأما أن يأمره بالغوص في قعر البحر مع تيقّن الهلاك ، فهذا يدلّ على عدم الرّحمة ؛ وكذا ههنا (٢).
قوله : (وَما جَعَلْناكَ) «جعل» بمعنى : صيّر فالكاف مفعول أوّل ، و «حفيظا» هو الثّاني ، و «عليهم» متعلّق به ، قدّم للاهتمام أو للفواصل ، ومفعول «حفيظ» محذوف ، أي : «حفيظا عليهم أعمالهم».
قال أبو البقاء (٣) : «هذا يؤيّد قول سيبويه (٤) في إعمال فعيل» يعني : أنه مثال مبالغة ، وللنّاس في إعماله وإعمال فعل خلاف أثبته سيبويه ، ونفاه غيره.
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٤.
(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٧.
(٤) ينظر : الكتاب ٢ / ٢٥٥.