والثاني : أن الكفّار كانوا مقرّين بالله ـ تعالى ـ ؛ لقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] وكانوا يقولون : إنّما نعبد الأصنام ؛ لتصير شفعاؤنا عند الله ، فكيف يعقل إقدامهم على شتم الله وسبّه.
وقال السّدّيّ : لما قربت وفاة أبي طالب ، قالت قريش : ندخل عليه ، ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنّا ، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعه عمّه ، فلما مات ، قتلوه ؛ فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنّضر بن الحارث ، وأميّة وأبي ابنا خلف ، وعاقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن أبي البختري إليه ، وقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيّدنا ، وإن محمّدا آذانا وآلهتنا ، فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندعه وإلهه ، فدعاه ، فقال : يا محمّد ، هؤلاء قومك ، وبنو عمّك يطلبوك أن تتركهم على دينهم ، وأن يتركوك على دينك ، وقد أنصفك قومك ، فاقبل منهم ، فقال النّبيّ صلىاللهعليهوسلم : أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ، ودانت لكم بها العجم قال أبو جهل : نعم وأبيك ، لنعطينّكها ، وعشرة أمثالها ، فما هي؟ قال : «قولوا : لا إله إلّا الله» فأبوا ونفروا ، فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي ، فقال : يا عمّ ، ما أنا بالّذي أقول غيرها ، ولو أتوني بالشّمس فوضعوها في يدي. فقالوا : لتكفّنّ عن سب آلهتنا ، أو لنشتمنّك أو لنشتمنّ من يأمرك بذلك ، فأنزل الله ـ تعالى ـ الآية الكريمة (١).
وفيه إشكالان ، ويمكن الجواب من وجوه :
الأول : أنه ربّما كان بعضهم قائلا بالدّهر ونفي الصّانع ، فيأتي بهذا النّوع من الشّفاعة.
الثّاني : أن الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ متى شتموا الأصنام ، فهم كانوا يشتمون الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالله ـ تعالى ـ أجرى شتم الرّسول مجرى الله ـ تعالى ـ ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ) [الفتح : ١٠] وكقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧].
الثالث : أنه ربّما كان في جهّالهم ، من كان يعتقد أنّ شيطانا يحمله على ادّعاء النّبوّة والرّسالة ، ثمّ إنّه لجهله ، كان يسمّي ذلك الشّيطان بأنه إله محمّد ، فكان يشتم إله محمّد بناء على هذا التّأويل.
وقال قتادة : كان المسلمون يسبّون أصنام الكفّار ، فنهاهم الله ـ تعالى ـ عن ذلك ؛ لئلّا يسبّوا الله ، فإنهم جهلة (٢).
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧١) وعزاه لابن أبي حاتم ، والبغوي في تفسيره ٢ / ١٢١.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.