المتقدّم ، فإنما كذّبه بهذا الطّريق ؛ لأنه يقول : «الكل بمشيئة الله ، فهذا الذي أنا عليه من الكفر إنما حصل بمشيئة الله ـ تعالى ـ ، فلم يمنعني منه» وإذا حملنا الآية على هذا الوجه ، صارت القراءة بالتّشديد مؤكّدة للقراءة بالتّخفيف ، فيصير مجموع القراءتين دالا على إبطال قول المجبّرة.
وثالثها : قوله ـ تبارك وتعالى ـ بعده : (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) وذلك يدلّ على أنّهم استوجبوا الوعيد من الله ؛ بذهابهم إلى هذا الوجه.
ورابعها : قوله ـ تعالى ـ بعده : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) ، وهذا استفهام على وجه الإنكار ، وذلك يدلّ على أنّ هذا القائل بهذا القول ليس له فيه حجّة ، فدلّ على فساده ؛ لأن الحقّ على القول به دليل.
وخامسها : قوله ـ تعالى ـ بعده : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) مع أنه ـ تعالى ـ ذم الظّنّ بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦] ، ونظائره.
وسادسها : قوله : (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) ، والخرص أكبر أنواع الكذب ، قال ـ تعالى ـ : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠].
وسابعها : قوله ـ تعالى ـ بعده : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) وتقديره : أنّهم احتجوا في دفع دعوى الأنبياء على أنفسهم بأن قالوا : كل ما حصل فهو بمشيئة الله ـ تعالى ـ ، وإذا شاء الله منّا ذلك ، فكيف يمكننا تركه؟ وإذا كنّا عاجزين عن تركه ، فكيف يأمرنا بتركه؟ وهل في وسعنا وطاقتنا أن نأتي بفعل على خلاف مشيئة الله ـ تعالى ـ ، فهذا هو حجّة الكفّار على الأنبياء ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) وذلك من وجهين (١) :
الأول : أنه ـ تعالى ـ أعطاكم عقولا كاملة ، وأفهاما وافية ، وآذانا سامعة ، وعيونا باصرة ، وأقدركم على الخير والشرّ ، وأزال الأعذار والموانع بالكلّيّة عنكم ، فإن شئتم ذهبتم إلى الخيرات ، وإن شئتم ذهبتم إلى عمل المعاصي والمنكرات ، وهذه القدرة والمكنة معلومة الثّبوت بالضّرورة ، وزوال الموانع والعوائق معلوم الثّبوت أيضا بالضّرورة ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان ادّعاؤكم أنّكم عاجزون عن الإيمان والطّاعة دعوى باطلة ، فثبت بما ذكرنا أنه ليس لكم على الله حجّة ، بل لله الحجّة البالغة عليكم.
الوجه الثاني : أنكم تقولون : لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله ـ تعالى ـ ، لكنّا قد غلبنا الله وقهرناه ، وأتينا بالفعل على مضادّته ، وذلك يوجب كونه عاجزا ضعيفا ، وذلك يقدح في كونه إلها ، فأجاب الله ـ تبارك وتعالى ـ عنه : بأن العجز والضّعف إنما يلزم إذا لم يكن قادرا [على حملهم على الإيمان والطّاعة على سبيل القهر والإلجاء ، وأنا قادر](٢) على ذلك ، وهو المراد من قوله : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ، إلا أني لا أحملكم على
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٨٥ ـ ١٨٦.
(٢) سقط في ب.