الإيمان والطّاعة على سبيل القهر والإلجاء ؛ لأن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التّكليف ، فثبت بهذا البيان أن الّذين يقولونه من أنّا لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله ـ تعالى ـ ، فإنه يلزم منه كونه ـ تعالى ـ عاجزا ضعيفا ، كلام باطل.
قال ابن الخطيب (١) : والجواب المعتمد في هذا الباب أن نقول : إن هذه السّورة من أولها إلى آخرها تدلّ على صحّة قولنا ومذهبنا ونقلنا في كل آية ما يذكرونه من التّأويلات ، وأجبنا عنها بأجوبة واضحة قويّة مؤكّدة بالدّلائل العقلية القاطعة.
وإذا ثبت هذا ؛ فلو كان المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، لوقع التّناقض الصّريح في كتاب الله ـ تعالى ـ فإنّه يوجب أعظم أنواع الطّعن فيه.
وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : إنه ـ تبارك وتعالى ـ حكى عن القوم بأنّهم قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ثم ذكر عقيبه : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فهذا يدلّ على أن القوم قالوا : لمّا كان الكلّ بمشيئة الله وتقديره ، كان التّكليف عبثا ، فكانت دعوى الأنبياء باطلة ، ونبوّتهم ورسالتهم باطلة ، ثم إنه ـ تبارك وتعالى ـ بيّن أن التّمسّك بهذا الطّريق في إبطال النّبوّة باطل ؛ وذلك لأنّه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا اعتراض لأحد عليه ، فهو ـ تبارك وتعالى ـ يشاء الكفر من الكافر ، ومع هذا يبعث إليه الأنبياء ، ويأمره بالإيمان ، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع.
فالحاصل : أنه ـ تبارك وتعالى ـ بيّن أن هذا الاستدلال فاسد باطل ؛ فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله في كل الأمور على دفع دعوة الأنبياء ، وعلى هذا الطّريق فقط سقط هذا الاستدلال بالكلّيّة ، وجميع الوجوه التي ذكرتموها ، والتّقبيح والتّهجين عائد إلى تمسّكهم بثبوت المشيئة لله على دفع دعوة الأنبياء فيكون الحاصل : أنّ هذا الاستدلال باطل [وليس فيه ألبتّة ما يدلّ على أن القول بالمشيئة باطل](٢).
فإن قالوا : إن هذا العذر إنما يستقيم إذا قرأنا قوله ـ تعالى ـ : «كذلك كذّب» بالتّشديد ، وأمّا إذا قرأناه بالتّخفيف ، فإنه يسقط هذا العذر بالكلّيّة ، فنقول : فيه وجهان :
الأول : أنا نمنع صحّة هذه القراءة ؛ والدّليل عليه أنّا بينّا أن هذه السّورة من أولها إلى آخرها تدلّ على قولنا ، فلو كانت هذه الآية الكريمة دالّة على قولهم لوقع التّناقض ، ويخرج القرآن عن كونه كلاما لله ـ تعالى ـ ، ويندفع هذا التّناقض بألا نقبل هذه القراءة (٣).
والثاني : سلّمنا صحّة هذه القراءة ، لكن نحملها على أن القوم كذبوا في أنه يلزم من ثبوت مشيئة الله ـ تعالى ـ في كل أفعال العباد ، سقوط نبوّة الأنبياء وبطلان دعوتهم ،
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٨٦.
(٢) سقط في أ.
(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٨٦.