واختار سيبويه (١) هذا الوجه ، وشبّهه بقولهم : «دعني ولا أعود» ، أي : وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني ، أي : لا أعود على كلّ حال ، كذلك معنى الآية : أخبروا أنهم (٢) لا يكذّبون بآيات ربهم ، وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال ، ردّوا (٣) أو لم يردّوا.
وهذا الوجه وإن كان النّاس قد ذكروه ورجّحوه ، واختاره سيبويه ـ رحمهالله ـ كما مرّ ، فإن بعضهم استشكل عليه إشكالا ، وهو : أنّ الكذب لا يقع في الآخرة ، فكيف وصفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قوله م «ولا نكذّب ونكون»؟
وقد أجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أن قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) استيثاق لذمّهم بالكذب ، وأن ذلك شأنهم كما تقدّم ذلك آنفا.
والثاني : أنهم صمّموا في تلك الحال على أنهم لو ردّوا لما عادوا إلى الكفر لما شاهدوا من الأهوال والعقوبات ، فأخبر الله ـ تعالى ـ أنّ قولهم في تلك الحال : «ولا نكذّب» وإن كان عن (٤) اعتقاد وتصميم يتغير (٥) على تقدير الرّدّ ، ووقوع العود ، فيصير قولهم : (وَلا نُكَذِّبَ) كذبا ، كما يقول اللّصّ عند ألم العقوبة : «لا أعود» ويعتقد ذلك ويصمم عليه ، فإذا خلّص وعاد كان كاذبا.
وقد أجاب مكّي (٦) أيضا بجوابين :
أحدهما [قريب](٧) مما تقدّم ، والثاني لغيره ، فقال ـ أي : لكاذبون في الدّنيا في تكذيبهم الرّسل ، فإنكارهم البعث للحال [التي](٨) كانوا عليها في الدّنيا ، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوع التكذيب في الآخرة ، لأنهم ادّعوا أنهم لو ردّوا لم يكذّبوا بآيات الله ، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون ، وأنهم لو ردّوا لم يؤمنوا ولكذّبوا بآيات الله ، فأكذبهم الله في دعواهم.
وأمّا نصبهما فبإضمار «أن» بعد الواو التي بمعنى «مع» ، كقولك : «ليت لي مالا وأنفق منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن» ، و «أن» مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدر ، و «الواو» حرف عطف ، فيستدعي معطوفا عليه ، وليس قبلها في الآية إلّا فعل ، فكيف يعطف اسم على فعل؟ فلا جرم أن نقدّر مصدرا متوهّما يعطف هذا المصدر
المنسبك من «أن» وما بعدها عليه ، والتقدير : يا ليتنا لنا ردّ ، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا وكون من المؤمنين أي : ليتنا لنا ردّ مع هذين الشيئين ، فيكون عدم التكذيب والكون من
__________________
(١) ينظر : الكتاب ١ / ٤٩٨.
(٢) في ب : بأنهم.
(٣) في ب : يرءوا.
(٤) في أ : بين.
(٥) في أ : ونصبهم يتعين.
(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٦٢.
(٧) في أ : قرب.
(٨) سقط في أ.