وعلى هذا فهل العموم باق؟ منهم من قال : نعم وإن جميع الأشياء مثبتة في القرآن إمّا بالصريح ، وإمّا بالإيماء (١).
فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وعلم الحساب ، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم ، ولا تفاصيل مذاهب النّاس ، ودلائلهم في علم الأصول والفروع؟
والجواب أن قوله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها ، واعلم أن علم الأصول موجود بتمامه في القرآن على أبلغ الوجوه ، وأما تفاصيل الأقاويل والمذاهب ، فلا حاجة إليها.
وأمّا تفاصيل الفروع فالعلماء قالوا : إن القرآن دلّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجّة في الشريعة ، وإذا كان كذلك فكلّ ما دلّ عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن قال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧].
وقال عليه الصلاة والسلام : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي» (٢).
وروي أن ابن مسعود كان يقول : «ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه» (٣) يعني : الواشمة والمستوشمة ، والواصلة والمستوصلة ، وروي أنّ امرأة قرأت جميع القرآن ثم أتته فقالت : يا ابن أمّ عبد ، تلوت البارحة ما بين الدّفّتين ، فلم أجد فيه لعن الواشمة ، والمستوشمة ، فقال : لو تلوتيه لوجدتيه ، قال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] ، وإن مما أتانا به رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن قال : «لعن الله الواشمة والمستوشمة» (٤).
وقال ابن الخطيب (٥) : يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله في قوله تعالى في سورة «النساء» حين عدّد قبائح الشيطان قال : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [النساء : ١١٩] فظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللّعن.
__________________
(١) الإيماء : هو الاقتران بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل ، كان بعيدا ، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد ، وعرفه بعض الأصوليين بأنه : ما يدل على علية وصف لحكم بواسطة قرينة من القرائن ، ويسمى بالتنبيه أيضا ، وله ستة أنواع ، وقد جعله بعضهم مسلكا مستقلا ؛ لأنه لا يدل على العلية صراحة ، وبعضهم أدرجه تحت مسلك النص.
ينظر : الإحكام للآمدي (٣ / ٥٦) ، مختصر ابن الحاجب ص (١٨٨) ، العضد (٢ / ٢٣٤). جمع الجوامع (٢ / ٢٦٦) ، نهاية السول (٤ / ٦٣) ، شرح الكوكب المنير ص (٥١١) ، التلويح (٢ / ٦٨) ، إرشاد الفحول ص (٢١٢).
(٢) تقدم.
(٣) ذكره الرازي في تفسيره ١٢ / ١٨٠.
(٤) تقدم.
(٥) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٨.