وذكر الواحدي (١) أن الشّافعي جلس في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلّا أجبتكم فيه من كتاب الله ، فقال رجل : ما تقول في المحرم إذا قتل الزّنبور؟ ، فقال : لا شيء عليه ، فقال : أين هذا في كتاب الله؟ ، فقال : قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر : ٧] ، ثم ذكر سندا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي» (٢) ، ثم ذكر إسنادا إلى عمر أنه قال : «للمحرم قتل الزّنبور» (٣).
قال الواحدي (٤) : فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات ، وقول النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث العسيف : «والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله» (٥) ثم قضى بالجلد والتّغريب على العسيف ، وبالرجم على المرأة إذا اعترفت.
قال الواحدي (٦) : وليس للجلد والتّغريب ذكر في نصّ الكتاب (٧) ، وهذا يدلّ على
__________________
(١) ينظر : المصدر السابق.
(٢) تقدم.
(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٧٨).
(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٨.
(٥) أخرجه مالك (٢ / ٨٢٢) كتاب الحدود : باب ما جاء في الرجم حديث والبخاري (١٢ / ١٧٩) كتاب الحدود : باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا حديث (٦٨٤٢ ، ٦٨٦٣) ومسلم (٣ / ١٣٢٤ ـ ١٣٢٥) كتاب الحدود : باب من اعترف على نفسه بالزنى حديث (٢٥ / ١٦٩٧ ـ ١٦٩٨) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
(٦) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٨.
(٧) حدّ البكر جلد مائة وتغريب عام ، ويكون كل واحد منهما حدا ، فيجمع عليه بين حدّين ، رجلا كان الزاني أو امرأة.
وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأحمد بن حنبل.
وقال أبو حنيفة : ليس عليه إلّا حدّ واحد وهو الجلد ، فأما التغريب فهو تعزير غير مقدر ، يرجع فيه إلى رأي الإمام في فعله ، وتركه ، أو العدول إلى تعزيره.
وقال مالك : يجمع بينهما في حد الرجل ، ولا يجمع بينهما في حد المرأة ، وتجلد ولا تغرب ؛ لأنها عورة.
واستدلوا على أن التغريب ليس بحدّ في الزنا بقول الله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] فكان الدليل فيه من وجهين :
أحدهما : أنه اقتصر في حدها على الجلد ، ولو وجب التغريب لقرنه به ؛ لأن تأخير البيان عن وقته لا يجوز.
والثاني : أن وجوب التغريب زيادة على النص ، والزيادة على النص تكون نسخا ، ونسخ القرآن لا يجوز بأخبار الآحاد ، قالوا ولأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد منع من سفر المرأة إلّا مع ذي محرم ، فإن غربت مع غير ذي محرم ، أسقطتم الخبر ، وإن غربت مع ذي محرم أوجبتم التغريب على من ليس بزان ، ولأنه سبب يوجب الحد فلم يجب به التغريب كالقذف وشرب الخمر ؛ ولأنه زنا يوجب عقوبة فلم يجمع فيه بين حدين كزنا الثيب.
ودليلنا حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «خذوا عنّي قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثّيب بالثّيب جلد مائة والرّجم». أخرجه مسلم في صحيحه ٣ / ٣٢٤ حديث رقم (٢٤ ب / ١٦٩٦).
فإن قيل : لما كان ما اقترن برجم الثيب من الجلد منسوخا اقتضى أن يكون ما اقترن بجلد البكر من التغريب منسوخا؟ قيل : نسخ أحدهما لا يوجب نسخ الآخر ؛ لأن النسخ يؤخذ من النصّ دون القياس ، وحديث أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال للرجل : «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» ، بعد قول الرجل : ـ