تخبر بالفناء ، وساكنها يحدى بالموت (١) فقد أمر منها ما كان حلوا ، وكدر منها ما كان صفوا ، فلم يبق منها إلا سلمة كسلمة الإداوة (٢) ، وجرعة كجرعة الاناء (٣) ، يتمززها الصديان لم تنفع غلته ، فأزمعوا عباد الله بالرحيل من هذه الدار (٤) المقدور على أهلها الزوال ، الممنوع أهلها من الحياة ، المذللة أنفسهم بالموت فلا حي يطمع في البقاء ولا نفس إلا مذعنة بالمنون ، فلا يغلبنكم الامل ، ولا يطل عليكم الأمد ، ولا تغتروا فيها بالآمال وتعبدوا الله أيام الحياة ، فوالله لو حننتم حنين الواله العجلان (٥) ودعوتهم بمثل دعاء الأنام وجأرتم جؤار متبتل الرهبان (٦) ، وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد التماس القربة
__________________
يأنس به كل أحد. وأدبرت حذاء بالحاء المهملة والذال المعجمة ـ أي أدبرت سريعة. وفى بعض النسخ بالجيم وهو تصحيف ، وفى نهج البلاغة « فهي تحفز بالفناء سكانها ، وتحدو بالموت جيرانها » والحفز بالرمح : الطعن به.
(١) « يحدى » على صيغة المجهول ، ولعل الباء بمعنى « إلى » أو لفظة « إلى » مقدرة في نظم الكلام ( مراد ) وفى الصحاح الحدو ـ كفلس ـ : سوق الإبل والغناء لها ، وقد حدوت الإبل حدوا وحداء ـ بضم الأخير ـ.
(٢) السملة ـ محركة ـ : القليل من الماء يبقى من الاناء. والإداوة ـ بكسر الهمزة ـ : المطهرة واناء صغير من جلد يتطهر به ويشرب.
(٣) في النهج « كجرعة المقلة » ـ بفتح الميم ـ وهي حصاة القسم توضع في الاناء إذا عدموا الماء في السفر ثم يصب الماء عليه حتى يغمر الحصاة فيعطى كل أحد سهمه.
(٤) التمزز : تمصمص الماء قليلا قليلا ، والمزة : المصة ، والصدى : العطش ، وقد صدى يصدى صدى فهو صد ، وصاد ، وصديان ، ونقع الماء العطش نقعا ونقوعا أي سكته ـ بشد الكاف ـ. والغلة والغل شدة العطش وحرارته. وأزمعوا أي أجمعوا ، وفى بعض النسخ « فأجمعوا ».
(٥) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب « الوله العجال » بضم الواو وكسر العين ـ كما في النهج ـ والعجال : كل أنثى فقدت ولدها فيه واله ووالهة والعجول من الإبل التي فقدت ولدها.
(٦) وجأر ـ كمنع ـ جأرا وجؤارا ـ كصراخ ـ : تضرع واستغاث رافعا صوته بالدعاء. والمتبتل : المنقطع للعبادة أو عن النساء أو عن الدنيا ، أي لو تضرعتم إلى الله كهؤلاء بأرفع أصواتكم كما يعل الراهب المتبتل ـ لكان كذا وكذا.