سؤالك إلا ما ذكرته. واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر ، فيستحيل (١) من موسى ـ عليهالسلام (٢) ـ أن يذكر ما تعرف (به تلك) (٣) الحقيقة ، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة ، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق ، وعدل إلى التخويف ، وقال : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)(٤) : المحبوسين. قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل ، لأنه (٥) كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا يهوي به في (٦) الأرض (٧).
وقال : (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ولم يقل : «لأسجننّك» وهو أخص منه ؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك ، أو (٨) معناه : لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني (٩) فعند ذلك ذكر موسى كلاما مجملا ليعلق قلبه به فيعدل عن وعيده ، فقال (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي : هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجود الله ، وعلى أنّي رسوله. فعند ذلك قال : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان ، فقال فرعون : (فَأْتِ بِهِ) فإنا لن نسجنك حينئذ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١٠) فإن قيل : كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول ، وهو قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ)(١١) أي : بآية (١٢) بيّنة ، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم؟
فالجواب : بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حيّة على الله ، وعلى توحيده ، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة ، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم (١٣). والواو في قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ) واو الحال ، دخلت عليها همزة الاستفهام ، والمعنى : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ أي : جائيا بالمعجزة (١٤) وقال الحوفي : «هي واو العطف» (١٥). وتقدم تحرير هذا عند قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ)(١٦) في البقرة ، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها.
قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ
__________________
(١) في ب : ليستحيل.
(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٣) به تلك : تكملة من الفخر الرازي.
(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٩ ـ ١٣٠.
(٥) في ب : لأن.
(٦) في ب : إلى.
(٧) انظر البغوي ٦ / ٢١٢.
(٨) في ب : و.
(٩) انظر الكشاف ٣ / ١١٢.
(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٠.
(١١) مبين : مكرر في ب.
(١٢) في ب : بأنه. وهو تحريف.
(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٠.
(١٤) انظر الكشاف ٣ / ١١٢.
(١٥) انظر البحر المحيط ٧ / ١٤.
(١٦) من قوله تعالى : «أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ» [البقرة : ١٧٠].