جريج والسّديّ : لما قالت أخت موسى (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) استنكروا حالها وتفرّسوا أنها قرابته ، فقالت : إنّما أردت وهم للملك ناصحون ، فتخلّصت منهم (١) ، وهذا يسمى عند أهل البيان الكلام الموجّه (٢) ومثله : لما سئل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحب عليّا دون غيره ، وبعضهم أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان ، فقيل له : أيهم أحبّ إلى رسول الله؟ فقال (٣) : من كانت ابنته تحته. وقيل لما تفرّسوا أنه قرابته قالت : إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك ، واتصالنا به (٤). وقيل : إنها لما قالت : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ) ، قالوا لها : من؟ قالت : أمي. قالوا : ولأمك ابن؟ قالت: نعم ، هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها. قالوا : صدقت ، فائتينا بها ، فانطلقت إلى أمه فأخبرتها بحال ابنها ، وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصّه حتى امتلأ جنباه ريّا (٥).
والنصح : إخلاص العمل من سائر الفساد (٦).
قوله : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بردّ موسى إليها ، (وَلا تَحْزَنَ) عطف على «تقرّ» (٧) ، ودمعة الفرح قارّة ، ودمعة التّرح حارّة. قال أبو تمام (٨) :
٣٩٧٦ ـ فأمّا عيون العاشقين فأسخنت |
|
وأمّا عيون الشّامتين فقرّت (٩) |
وتقدم تحقيق هذا في مريم (١٠).
__________________
(١) انظر البغوي ٦ / ٣٤٤ ، القرطبي ١٣ / ٢٥٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٨.
(٢) المعروف في علم البديع أن مثل هذا يسمي التوجيه ، وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين كقول من قال لأعور يسمى عمرا :
خاط لي عمرو قباء |
|
ليست عينيه سواء |
وقيل : عبارة عن وجه ينافي كلام الخصم ، ومنه المثال الذي أتى به ابن عادل ، أما الموجّه فهو أن يمدح بشيء يقتضي المدح لشيء آخر. انظر الإيضاح (٣٨٧ ـ ٣٨٨).
(٣) في ب : فقالت.
(٤) انظر البغوي ٦ / ٣٢٤.
(٥) المرجع السابق.
(٦) انظر الكشاف ٣ / ١٥٩.
(٧) انظر التبيان ٢ / ١٠١٨.
(٨) تقدم.
(٩) البيت من بحر الطويل ، قاله أبو تمام وهو في ديوانه ١ / ٣٠٠ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٨ والشاهد فيه أن قوله : (فأسخنت) دالّ على أن دمعة الحزن حارة ساخنة ، وقوله : (قرّت) من القرّ أو القرة : البرد ، والعين قارّة إذا كان دمعها باردا من فرح وسرور.
(١٠) عند قوله :«فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً»[مريم : ٢٦].
وذكر ابن عادل هناك : والعامة على فتح القاف من قرّي أمر من قرت عينه تقر بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، وقرىء بكسر القاف ، وهي لغة نجد ، يقولون قرت عينه تقر بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع ، وفي وصف العين بذلك تأويلان أحدهما : أنه مأخوذ من القر ، وهو البرد ، وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها قارا ، أي : باردا ، وإذا حزن كان دمعها حارا ولذلك قالوا في الدعاء عليه : أسخن الله عينه.
والثاني : أنه مأخوذ من الاستقرار والمعنى أعطاه الله ما يسكن عينه فلا تطمح إلى غيره. انظر اللباب ٥ / ٤١٢.