الفاني يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجا عن حد العقل ، ورحم الله الشافعي حيث قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله ـ تعالى ـ لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلين بالطاعة ، فكأنه رحمهالله إنما أخذه من هذه الآية (١). وقرأ أبو عمرو «ا فلا يعقلون» بالياء من تحت التفاتا ، والباقون بالخطاب (٢) جريا (٣) على ما تقدم.
قوله (٤) : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) قرأ طلحة «أمن وعدناه» بغير فاء (٥)(وَعْداً حَسَناً) يعني الجنة (فَهُوَ لاقِيهِ) مصيبه ومدركه وصائر إليه (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وتزول عن قريب (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) النار (٦) ، وقرأ الكسائي وقالون : «ثم هو» بسكون الهاء إجراء لها مجرى الواو والفاء ، والباقون بالضم على الأصل (٧) ، وتخصيص لفظ (الْمُحْضَرِينَ) بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن ، قال تعالى (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات : ٥٧] (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات : ١٢٧] وفي اللفظ إشعار به ، لأن الإحضار يشعر بالتكليف والإلزام ، وذلك لا يليق بمجالس اللذة ، وإنما يليق بمجالس الضرر والمكاره (٨). قوله (٩) : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا أنهم شركائي وتزعمون أنها تشفع فتخلصكم من هذا الذي نزل بكم ، وتزعمون مفعولاه محذوفان (١٠) أي : (تزعمونهم شركاء (١١))(١٢) ، (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة وقيل : الشياطين (١٣).
قوله : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) فيه وجهان :
أحدهما : أن هؤلاء مبتدأ ، والّذين أغوينا صفته والعائد محذوف ، أي أغويناهم ، والخبر «أغويناهم» (١٤) ، و (كَما غَوَيْنا) نعت لمصدر محذوف ، ذلك المصدر مطاوع لهذا الفعل أي فغووا غيّا كما غوينا ، قاله (١٥) الزمخشري (١٦) ، وهذا الوجه منعه أبو علي ،
__________________
(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥ / ٧.
(٢) السبعة (٤٩٥) الكشف ٢ / ١٧٥ ، النشر ٢ / ٣٤٢ ، الإتحاف ٣٤٣.
(٣) في الأصل : جوابا.
(٤) في ب : قوله تعالى.
(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٧.
(٦) انظر البغوي ٦ / ٣٥٦.
(٧) السبعة (١٥١) الكشف ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، الكشاف ٣ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ، التبيان ٢ / ١٠٢٤.
(٨) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٧.
(٩) في ب : قوله تعالى.
(١٠) في ب : مفعولا محذوفا. وهو تحريف.
(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٧٦ ، البيان ٢ / ٢٣٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٨.
(١٢) ما بين القوسين في ب : تزعمونه شركاء.
(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١٧٦ ، الفخر الرازي ٢٥ / ٨.
(١٤) في ب : أغوينا.
(١٥) في النسختين : قال. والصواب ما أثبته.
(١٦) انظر الكشاف ٣ / ١٧٦.