وقد يكون المقدم صوتا) غير مفهوم ، كمن يصفّر خلف إنسان ليلتفت وقد يكون الصوت بغير الفم ، كتصفيق الإنسان بيده ، ليقبل السامع عليه.
ثم إن توقع (١) الغفلة (كلما كان أتم ، والكلام المقصود كان أهم) (٢) ، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب «بالهمزة» فيقال : «أزيد» ، والبعيد ب «يا» ، فيقال : «يا زيد» ، والغافل ينبه أولا ، فيقال : «ألا يا زيد».
إذا تقرر هذا فنقول : النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإن كان يقظان الجنان (٣) لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن ، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفا هي كالمنبّهات.
وتلك الحروف إذا لم يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة ، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى ، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و «لا» (٤) كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتا بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره ، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود.
فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة (٥).
فإن قيل : فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟
فالجواب : قال ابن الخطيب : عقل (٦) البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكلّيّة على تفاصيلها ، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول : كل سورة في أوائلها (حروف التهجي فإن في أوائلها) (٧) ذكر الكتاب أو التنزيل ، أو القرآن كقوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ـ ٢] ، (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) [آل عمران : ١ ـ ٣] ، (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ) [الأعراف : ١ ـ ٢] ، (يس وَالْقُرْآنِ) [يس : ١ ـ ٢] ، (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) [السجدة : ١ ـ ٢] ، (حم تَنْزِيلُ) [غافر : ١ ـ ٢] ، (ق
__________________
(١) في الرازي موقع.
(٢) ساقط من «ب» فهو بياض فيها ولا كذلك في الرازي ونسخة «أ».
(٣) الجنان ـ بالفتح ـ القلب ، لاستتاره في الصدر ، وقيل : لوعيه الأشياء وجمعه لها ، وقيل : هو روع القلب ، وذلك أذهب في الخفاء ، وينظر: اللسان «ج ن ن» ٧٠٢.
(٤) لا : ساقط من «أ».
(٥) ينظر : تفسير الرازي ٢٥ / ٢٦.
(٦) كذا هي في الرازي كما في «أ» هنا وفي «ب» اتيان البشر.
وابن الخطيب هو : محمد بن عمر بن الحسين بن الحسين بن علي ، الإمام فخر الدين الرازي ، القرشي ، البكري ، من ذرية أبي بكر الصديق ، الشافعي ، المفسر ، المتكلم ، فريد عصره ، ونسيج وحده ، له من الكتب التفسير الكبير وغير ذلك ، مات سنة ٦٢٢ ه ، وينظر : طبقات المفسرين للسيوطي ١١٥ / ١١٦.
(٧) ما بين القوسين ساقط من «ب». وهو في الرازي كما في «أ».