الإنسان على الحشر فلأنه إذا تفكر في نفسه يرى قوى (١) مصائره إلى الزوال ، وأجزاء ماثلة إلى الانحلال وله فناء ضروري فلو لم يكن حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه عبثا وإليه الإشارة بقوله (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥] ، وهذا ظاهر ، لأن من يفعل شيئا للعبث ، فلو بالغ في أحكامه (٢) لضحك منه فأذن خلقه لذلك للبقاء ولا بقاء دون اللقاء بالآخرة فإذن لا بد من البعث. ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الأقطار فقال : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ، فقوله : (إِلَّا بِالْحَقِّ) إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [العنكبوت : ٤٤].
قوله : (ما خَلَقَ) «ما» نافية ، وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها.
والثاني : أنها معلقة للتفكّر فتكون في محل نصب (٣) على إسقاط الخافض ويضعف أن تكون استفهامية بمعنى النفي ، وفيها الوجهان المذكوران. والباء في «بالحق» إما سببية (٤) ، وإما حالية (٥) لإقامة قيل الحق ، وقوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) تذكير بالأصل الآخر الذي أنكروه أي لوقت معلوم ، إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة ، (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء.
قوله : «بلقاء» منعلق «بالكافرين (٦)» واللام لا تمنع من ذلك لكونها في خبر «إنّ». فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وقدم دليل الآفاق على دلائل (٧) الأنفس في قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣]؟.
فالجواب : أن المفيد إذا أفاد فائدة يتذكرها على وجه جيد يختاره فإن مهمة السامع المستفيد فذاك(٨) ، وإلا يذكرها (٩) على وجه أبين منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولا الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين (١٠) المذكور آخرا فالمذكور من المفيد آخرا مفهوم عند المستمع أولا ، إذا علم هذا
__________________
(١) في «ب» قواه صائرة وهو الأصح.
(٢) انظر : تفسير القرطبي ٢٥ / ٩٧ و ٩٨ و ٩٩.
(٣) انظر : التبيان لأبي البقاء ١٠٣٧ ، والدر المصون ٤ / ٣١٥.
(٤) يقول الفراء في معاني القرآن : «إلا بالحق : للثواب والعقاب والعمل» انظر : المعاني ٢ / ٣٢٢.
(٥) ذكرها في الكشاف ٣ / ٢١٥ ، يقول : «الباء في قوله إلا بالحق مثلها في قولك دخلت عليه بثياب السفر».
(٦) الأصح «بالكافرون».
(٧) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٩٩.
(٨) في «ب» فذلك.
(٩) في «ب» فيذكرها.
(١٠) في «ب» الذي ذكر آخرا فالمفيد من الذي ذكر آخرا.