والجبال فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن : وما فيها؟ قال : إن أحسنتنّ جوزيتنّ وإن عصيتنّ عوقبتنّ فقلن : لا يا رب نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا (١) وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لله خوفا أن لا يقوموا بها لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها ، والجمادات فيها خاشعة لله ـ عزوجل ـ ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وقال في الحجارة : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [البقرة : ٧٤] ، وقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ...) [الحج : ١٨] الآية. وقال بعضهم : ركّب الله (عزوجل) (٢) فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن. وقيل : المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات عرضها على من فيها من الملائكة وقيل : المراد المقابلة أي قابلنا الأمانة مع السموات فرجحت الأمانة وهي الدين والأول أصح (٣) ، وهو قول أكثر العلماء.
قوله : «فأبين» أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك وإن كان مذكرا وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث ـ وهو السموات ـ على المذكر وهو الجبال (٤). واعلم أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٣١] ؛ لأن السجود هناك كان فرضا وههنا الأمانة كانت عرضا والإباء هناك كان استكبارا وههنا استصغارا لقوله تعالى : (وَأَشْفَقْنَ مِنْها)(٥) أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) يعني آدم عليهالسلام فقال يا آدم : إني عرضت الأمانة على أهل السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ فقال يا رب : وما فيها؟ قال : إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم عليهالسلام. فقال الله تعالى أما إذ تحمّلتها فسأعينك أجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت فاغلق وأجعل لفرجك سترا فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت (٦) عليك قال مجاهد (٧) : فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر إلى العصر (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) قال ابن عباس : ظلوما لنفسه جهولا بأمر الله وما احتمل من الأمانة (٨) وقال مقاتل : ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل (٩). وذكر الزجاج (١٠) وغيره من أهل المعاني في قوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) قولا ، فقالوا : إن الله
__________________
(١) وهي رواية معمر عن الحسن البصري رحمهالله ، انظر القرطبي ١٤ / ٢٥٤.
(٢) سقط من «ب».
(٣) قاله الخازن والبغوي ٥ / ٢٧٩ و ٢٨٠.
(٤) قاله السمين في الدر ٤ / ٤٠٦.
(٥) قاله الرازي ٢٥ / ٢٣٥.
(٦) معالم التنزيل والخازن ٥ / ٢٨٠.
(٧) السابقان.
(٨) زاد المسير ٦ / ٤٢٩.
(٩) البغوي ٥ / ٢٨٠.
(١٠) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٣٨.