والله ، لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى ، يُفعل فيَّ ذلك سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟! وقام زهير بن القَين ، وقال : والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هولاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك. وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً ، وقالوا : أنفسنا لك الفداء! نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك ، نكون قد وفّينا لربّنا وقضينا ما علينا. ووصل خبر إلى محمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال بأنّ ابنه قد اُسر بثغر الرّي ، فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنتُ اُحبّ أنْ يُؤسر وأبقى بعده. فسمع الحسين (ع) قوله ، فقال : «رحمك الله ، أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك». فقال : أكلتني السّباع حيّاً إنْ فارقتك. قال : «فأعطِ ابنك هذا هذه الأثواب البُرود يستعين بها في فداء أخيه». فأعطاه خمسة أثواب بُرود قيمتها ألف دينار ، فحملها مع ولده.
أبتْ الحميّةُ أنْ تُفارقَ أهلَهَا |
|
وأبَى العزيزُ بأنْ يعيشَ ذليلا |
وأقام الحسين (ع) وأصحابه الليل كلّه وهم يصلّون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون ، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النّحل ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد.
سمةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ |
|
لله إنْ ضمّتْهُمُ الأسحارُ |
فإذا ترجّلتِ الضُّحى شَهدتْ لهُمْ |
|
بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ |
فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً ، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين (ع) برأسه خفقة ثمّ استيقظ ، فقال : «رأيت كأنّ كلاباً قد شهدت لتنهشني ، وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قَتلي رجل أبرص. ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (ص) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول : يا بُني ، أنت شهيد آل محمّد ، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى ...» (١).
إيهٍ مصارعَ كربلا كَمْ غصّةٍ |
|
جرّعتِ آلَ محمّد كُرُباتِها |
وافتْكِ رايةُ سِبطهِ منشورةً |
|
فطويتِها وحَطَمتِ صدرَ قناتِها |
______________________
(١) اذا وجد القارئ المجال متّسعاً ، وأراد أنْ يضمّ إلى هذا المجلس ما تقدّم في المجلس الثالث والأربعين من قوله : (قال علي بن الحسين (ع) : إنّي لجالس ... إلى آخره) فلا مانع. وإذا وصل إلى قوله : (وأبي ينشد تلك الأبيات) ، فليقل بَدَله : (وأبي يقول : يا دهرُ أفٍّ لك منْ خليلِ) إلى آخر الأبيات والحديث. ـ المؤلّف ـ