آخر أمري. فقال له الحسين (ع) : «فاصنع يرحمك الله ما بدا لك». فاستقدم أمام الحسين (ع) ، فقال : يا أهل الكوفة ، لاُمّكم الهبل والعِبَر (١)! أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا جاءكم أسلمتموه! وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري ، فهاهم قد صرعهم العطش ، بئسما خلّفتم محمّداً في ذرّيّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ. فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل ، فرجع حتّى وقف أمام الحسين (ع) وقال له : فإذا كنتُ أول مَن خرج عليك ، فاذَنْ لي أنْ أكون أول قتيل بين يديك ، لعلّي أكون ممَّن يُصافح جدّك محمّداً (ص) غداً في يوم القيامة. فحمل على أصحاب عمر بن سعد وهو يتمثّل بقول عنترة :
ما زِلتُ أرميْهمْ بغرّةِ وجْههِ |
|
ولبانهِ حتّى تَسرْبلَ بالدَّمِ |
ثم جعل يرتجز ويقول :
إنّي أنا الحُرّ ومأوَى الضَّيفِ |
|
أضربُ في أعناقِكُمْ بالسَّيفِ |
عنْ خيرِ مَنْ حلَّ بأرضِ الخيّفِ |
|
أضربُكُمْ ولا أرَى منْ حَيفِ |
وقاتل قتالاً شديداً ، وهو يرتجز ويقول :
إنّي أنا الحُرّ ونجلُ الحُرِّ |
|
أشجعُ منْ ذي لَبَدٍ هزبرِ |
ولستُ بالجبانِ عندَ الكرِّ |
|
لكنّني الوقّافُ عند الفرِّ |
حتّى قتل ثمانية عشر رجلاً ، وفي رواية : نيفاً وأربعين رجلاًَ ، وكان يحمل هو وزهير بن القَين ، فإذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتّى يخلّصه ، ثمّ حملت الرجّالة على الحُرّ وتكاثروا عليه حتّى قتلوه ، فاحتمله أصحاب الحسين (ع) حتّى وضعوه بين يدَي الحسين (ع) وبه رَمَق ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : «أنت الحُرّ كما سمّتك اُمّك ، حُرّ في الدّنيا والآخرة». وروي أنّه أتاه الحسين (ع) ودمُه يشخب ، فقال : «بخ بخ لك يا حُرّ ، أنت حُرّ كما سُمّيت في الدّنيا والآخرة».
نَصرُوا ابنَ بنتِ نبيِّهمْ طُوبى لهُمْ |
|
نالُوا بنُصرتِهِ مراتبَ ساميهْ |
قدْ جاورُوهُ هاهُنا بقبورِهمْ |
|
وقصورُهمْ يومَ الجزا مُتحاذيهْ |
______________________
(١) العِبَر ، بكسر العين وفتح الباء : جمع عَبْرة ، بفتح العين وسكون الباء ، وهي الحزن قبل خروج الدّمع. ـ المؤلّف ـ