المجلس الثّاني والثّلاثون بعد المئة
روى ابن أبي الحديد عن ابن عباس قال : لمّا اُخرج أبو ذر إلى الرّبذة ، أمر عثمان فنودي في النّاس أنْ لا يُكلِّم أحد أبا ذر ولا يشيّعه ، وأمر مروان بن الحكم أنْ يخرج به ، فخرج به وتحاماه النّاس : أي اجتنبوه. إلاّ عليّاً (ع) وعقيلاً أخا علي ، وحسناً وحسيناً (ع) وعمّاراً ، فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه ، فجعل الحسن (ع) يُكلّم أبا ذر ، فقال له مروان بن الحكم : ايهاً يا حسن ، ألا تعلم إنّ أمير المؤمنين عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإنْ كُنت لا تعلم فاعلم ذلك. فحمل علي (ع) على مروان ، فضرب بالسّوط بين اذني راحلته ، وقال : «تنحَّ لحاك الله إلى النّار». فرجع مروان مُغضباً إلى عثمان فاخبره الخبر ، فتلظّى على علي (ع). ووقف أبو ذر فودّعه القوم ، ومعه ذكوان مولى اُمّ هاني بنت أبي طالب ، قال ذكوان : فَحفِظتُ كلام القوم ـ وكان حافظاً ـ فقال علي (ع) : «يا أبا ذر ، إنّك غضبت لله فارجُ مَن غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عمّا منعوك ، وستعلم مَن الرّابح غداً والأكثر حسداً. ولو أنّ السّماوات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثُمّ اتقى الله ، لجعل الله له منها مخرجاً. لا يؤنسنك إلاّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاّ الباطل. فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمنوك». ثُمّ قال لأصحابه : «ودّعوا عمّكم». وقال لعقيل : «ودّع أخاك». فتكلم عقيل ، فقال : ما عسى أنْ نقول يا أبا ذر ، وأنت تعلم إنّا نحبك وأنت تحبنا ، فاتّقِ فإنّ التقوى نجاة ، واصبر فإنّ الصّبر كرم. واعلم إنّ استثقالك الصّبر من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع. ثُمّ تكلم الحسن (ع) فقال : «يا عمّاه ، لولا أنّه لا ينبغي للمودّع أنْ يسكت ، وللمشيّع إلاّ أنْ ينصرف ، لقصُر الكلام وإنْ طال الأسف. وقد أتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدّنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتّى تلقى نبيك (ص) وهو عنك راضٍ»