على مبدأ وإخلاصاً لعقيدة؟
وتبارى الرّجال في التّضحية ، ومضوا يسقطون واحداً بعد الآخر. وكان في الرّكب الحسيني رجل بسيط ، لا يُحسب إذا حُسبت البطولات ، ولا يُذكر إذا ذُكرت التّضحيات ، لا يؤبه لرأيه ولا يُعد لمُهمّة من مُهمّات الاُمور.
كان يؤمر فيُلبّي الأمر ، ويُستخدم فيخدم مُسرعاً ، كان أقصى ما يعرفه الرّفاق عنه أنّه خادم أمين وتابع مُخلص ، وما فوق ذلك فليس مما يرد اسمه على البال.
كان رقيقاً من اُولئك الأرقّاء السّود الذين امتلأت بهم قصور العُتاة وبيوت الطُغاة ، وكانت أيّة حشرة تلقى عناية أكثر ممّا يلقاه أيّ واحد منهم! وكان نصيبه أنْ وصل إلى يد أبي ذر الغفاري صاحب محمّد المُخلص ، وسمع أبو ذر النّبي (ص) يوصي بالأرقّاء خيراً ويحضّ النّاس على تحريرهم ، ومَن أولى من أبي ذر بتنفيذ وصايا النّبي؟ فاعتق أبو ذر العبد جون وأرسله حرّاً.
وأصابت المحنة أبا ذر وطورد واضطُهد ومات منفيّاً في الرّبذة ، وظلّ جون فقيراً مُعدماً ، فتلقّاه أهل البيت عليهمالسلام بالحنان والعطف ؛ فقد كانت فيه ذكريات من صاحب جدّهم رأوها جديرة بالوفاء ، فاحتضنوه وألحقوه بشؤونهم ؛ يقوم على رعاية بيتهم والعناية بأطفالهم ، وقضاء حاجات رجالهم.
ومشى الحسين (ع) إلى كربلاء ، وهذه حال جون لا شأن له أكثر من هذا الشّأن ، ولا مَن يُفكّر بإنْ يكون لجون دور فوق هذا الدّور ، وكان في حسبان الجميع أنّه سيغتنم أوّل فرصة للسلامة ، فينجو وينشد الخدمة من جديد في بيت جديد.
ولكن جون بقي في ركب الحسين (ع) لم يُفارقه مع المفارقين ، وثبت مع الرّجال المئة الذين ثبتوا حتّى وصلوا إلى كربلاء ، وظنّ النّاس أنّ جون سينتظر السّاعة الحاسمة ثُمّ ينطلق بعدها في طريق النّجاة ، ولكن الأيام مضت وجون في مكانه لم يبرحه ، وجاء اليوم التّاسع من المُحرّم وجون قائم على خدمة الحسين (ع) ، فها هو يصلح له سيفه ، والحسين (ع) يُردد تلك الأبيات الشّهيرة التّي لم تستطع معها اُخته زينب إلاّ أنْ تذرف دموعها.
أمّا جون فلم يذكر أحد أنّه انفعل أو تأثّر أو بكى ، أتراه لم يفهم ما كانت تعنيه تلك الأبيات؟ أتراه صلب العاطفة مُتحجّر القلب إلى حدّ لا يهزّه صوت الحسين (ع) ينعي نفسه؟ أتراه في تلك السّاعة في شاغل عن كلّ شيء إلاّ عن نفسه