المجلس الخامس والأربعون بعد المئة (١)
كرم محمّد بن عبد الله (ص) الإنسانيّة كلّها ، فالغى الإضطهاد العنصري إلغاءً عمليّاً حين اختار لأقدس مهمّة زنجيّاً أسود اللون ، وجعل منه مؤذّنه الذي يُنادي المؤمنين للصلوات في أوقاتها الخمس!
هذا الأسود هو بلال الحبشي الذي كان عبداً من عبيد قُريش ، فلم تكد تبلغه الدّعوة الإسلاميّة حتّى كان أوّل الملبّين لها ، وتعلم به قُريش ويعلم به سيّده اُميّة بن خلف ، فينصحونه بالعدول عن الطّريق الذي مشى فيه فلا يقبل النّصيحة ، ويستمر مُسلماً مُخلصاً ، فيأخذون في تعذيبه العذاب الأليم ، ولكنّه لا يزداد إلاّ إيماناً ، ثُمّ يفرّ بنفسه إلى المدينة مع مَن هاجر إليها ، وهُناك صار مؤذّن الرّسول. ولقد كانت في صوته لَكْنة ، فلا يستطيع أنْ يلفظ الشّين لفظاً صحيحاً ، بل تخرُج من فمه وكأنّها سين ، فيقول الرّسول (ص) : «إنّ سينه عند الله شين».
وعلى صوت بلال الحبشي كان يهرع شيوخ المُسلمين وشُبّانهم إلى المسجد ، ملبّين نداء الله ، يبعثه هذا الإنسان الأسود اللون. ولم يكُن تكريم لعنصر بلال أعظم من هذا التّكريم الذي خصّه به رسول الله ؛ ولذلك فإنّه لمّا مات النّبي ، انقطع إلى أهل البيت عليهمالسلام مُخلصاً لهم ، وفيّاً لذكرى أبيهم الرّسول.
وتدور الأيام ، ويلقى أهل البيت عليهمالسلام محناً وأرزاءً ، ويبرز الأوفياء مُلتفّين حول الاسرة النبويّة ، عازمين على الموت دونها ؛ إخلاصاً لمحمّد ورسالته. ويقف الحسين (ع) في كربلاء في أقلّ من مئة من الرّجال كانوا يُمثّلون في تلك السّاعة أنبل ما في الكون من سجايا ، وهل في الكون أنبل من أنْ يبذل الإنسان دمه طواعية ؛ وفاء لرجل وثباتاً
____________________
(١) من المجالس التّي أضفناها على الطّبعة السّابقة.