خطواته لا ينفكّ مُصغياً إلى صوت زميله بلال الحبشي مُتعالياً فوق كلّ أصوات البيض ؛ تكريماً من محمّد واعزازاً. وربّما خطر له في تلك اللحظات منظر بلال وهو واقف على أشرف مكان وأقدس بُقعة على ظهر الكعبة حين أمره محمّد ساعة فتح مكّة أنْ يصعد فيُنادي بالأذان ؛ الأسود الذي كان عبداً ذليلاً قبل رسالة محمّد يصعد على الكعبة ، وهو في نظر النّاس أعزّ إنسان.
دنت ساعة الوفاء لمحمّد (ص) ، دنت السّاعة التّي يردّ فيها هذا الزّنجي ـ جون ـ بعض الجميل لمحمّد (ص) ، وهل أعظم في الوفاء لمحمّد (ص) من أنْ يموت ذوداً عن أبنائه ونسائه وتعاليمه؟! وتقدّم جون من الحسين (ع) ، وقد انقلب بطلاً مغواراً ، وقد تجمّعت فيه كلّ فضائل بني جنسه ؛ تقدّم يستأذن الحسين (ع) في أنْ يكون كغيره من رفاق الحسين (ع).
والتفت الحسين (ع) إليه وقد أخذته الرّقة له والحنان عليه ، ولم يشأ أنْ يورطه فيما لا شأن له به ، فقال له : «أنت إنّما تبعتنا للعافية ، فلا تبتلِ بطريقتنا».
ولكن جون البطل أجاب الحسين (ع) : أنا في الرّخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشّدة أخذلكم! ثُمّ أردف هذا الجواب بكلمات لم يقصد بها الحسين (ع) ، بل أراد أنْ يوجهها للأجيال الماضية والأجيال الحاضرة والأجيال الآتية ؛ تلك الأجيال التّي لم ترَ للزنوج الكرامة التّي لهم ، فقال : إنّ ريحي لنتن ، وإنّ حسبي للئيم ، وإنّ لوني لأسود ، فتنفّس عليّ بالجنّة ؛ فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضّ وجهي. لا والله ، لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود بدمائكم.
لقد كان جون يعلم أنّه أكرم على الحسين (ع) من اُلوف البيض ، وإنّ الحسين (ع) أكرم من أنْ يراه لئيم الحسب نتن الرّيح. لم يكُن جون في الواقع يخاطب الحسين (ع) سبط محمّد مكرم الزّنوج ، بل كان يقف على ذروة من ذروات التّاريخ ليقول للادعياء المفاخرين بألوانهم وأطيابهم : إليكم هذا الذي ترونه في نظركم لئيم الحسب نتن الرّيح ، إليكم به اليوم يطاولكم شرفاً وحميّة وشجاعة ووفاء فلا تصلون إلى أخمص قدميه ؛ منكم يزيد الأبيض اللون المتحدّر من عبد مناف المضمّخ بالأطياب ، ومنكم عبيد الله بن زياد ، ومنكم شمر بن ذي الجوشن وحجّار بن أبجر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج ، منكم قبل هؤلاء وبعد هؤلاء كثيرون وكلّهم يشعّ بياضاً ويعبق طيباً ، وكلّهم يجرّ وراءه حلقات آباء وأجداد!
اُولئك غدروا بمحمّد (ص) الذي أخرجهم من الظُلمات ، فداسوا تعاليمه وحشّدوا على