معاوية ولمْ يعرفه عمرو بن العاص ، فقال معاوية : يا أبا عبد الله ، أتعرف هذا الفتى؟ قال : لا. قال : هذا ابن الذين كان يقول في صفّين :
أعْورُ يبْغِي أهلَهُ مَحَلاّ |
|
قدْ عالجَ الحياةَ حتّى مَلاّ |
لا بُدَّ أنْ يَغُلَّ أو يُغلاّ
فقال عمرو : يا أمير المؤمنين ، هذا المحتال ابن المرقال ، فدونك الضبّ المضب ، فإنّ العصا من العصية ، وإنّما تَلد الحيّة حيّة ، وجزاء السيئة سيئة مثلها. فقال له ابن هاشم : ما أنا بأوّل رجل خذله قومه وأدركه يومه. فقال معاوية : تلك ضغائن صفّين ، وما جنى عليك أبوك. فقال عمرو : يا أمير المؤمنين ، أمكني فأشخب أوداجه على أثباجه. فقال له ابن هاشم : فهلاّ كانت هذه الشجاعة منك يابن العاص أيام صفّين ، حين ندعوك إلى النّزال ، وقد ابتلّت أقدام الرجال من نقع الجريال (١) ، وقد تضايقتْ بك المسالك ، وأشرفتَ فيها على المهالك؟ فاُعجب معاوية ما سمع من كلام ابن هاشم ، فأمر به إلى السجن ، وكفّ عن قتله ، فقال عمرو :
أمرتُكَ أمراً حازِماً فعَصَيْتَني |
|
وكانَ منَ التَّوفيقِ قتلُ ابنِ هاشمِ |
أليسَ أبوُهُ يا مُعاويةُ الَّذِي |
|
رَماكَ علَى جدٍّ بحزِّ الغلاصمِ |
فما بَرحُوا حتّى جرتْ منْ دمائِنا |
|
بصفّين أمثالِ البُحورِ الخضَارمِ |
وهذا ابنُهُ والمرءُ يُشْبهُ أصلَهُ |
|
سنقرعُ إنْ أبقيتَهُ سِنَّ نادمِ |
فقال ابن هاشم يجيبه :
معاويَ إنّ المرْءَ عَمراً أبتْ لهُ |
|
ضَغينةُ صَدْرٍ غِشُّها غيرُ سالمِ |
يَرى لكَ قتْلي يابنَ حرْبٍ وإنّما |
|
يَرى ما يَرَى عمرٌو مُلوكُ الأعاجمِ |
على أنّهُم لا يَقتلُونَ أسيرَهُمْ |
|
إذا أثقلَ الأعْناقَ حَملُ المغَارمِ |
وقدْ كانَ منَّا يومَ صفّين نغْزةٌ |
|
عليكَ جناهَا هاشمٌ وابنُ هاشمِ |
قَضى الله ُ فيها ما قَضى ثَمّة انْقَضى |
|
ومَا ما مَضى إلاّ كأضغاثِ حالمِ |
هي الوقعةُ العُظْمَى الَّتي تعْرفونَها |
|
وكلٌّ على ما قدْ مَضى غيرُ نادمِ |
فإنْ تعفُ عنَّي تعفُ عنْ ذِي قرَابةٍ |
|
وإنْ تَرَ قَتلي تَسْتحلُ مَحارمي |
وهكذا كانت معاملة معاوية لشيعة أمير المؤمنين (ع) بعد ما تمّ له الأمر
________________
(١) الجريال : صبغ أحمر ، وأراد به هنا : الدّم ، تشبيهاً له بذلك الصبغ. ـ المؤلّف ـ