فاكفني حِجراً. فلمّا قدم عليه حِجر ، قال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين. قال : وأمير المؤمنين أنا! وجعل يكرر ذلك ، وأمر بإخراج حِجر وأصحابه إلى عذراء ، وقتلهم هناك. قال ابن الأثير : كان حجر وأصحابه ـ الذين بعث بهم زياد إلى معاوية ـ أربعة عشر رجلاً ، فحُبسوا بمرج عذراء ، وتشفّع أصحاب معاوية في ستّة منهم فأطلقهم ، وتشفّع بعضهم في حِجر فلم يطلقه ، وطلب اثنان منهم أنْ يرسلوهما إلى معاوية ، وقالا : إنّا نقول في هذا الرجل ـ أي : علي ـ مثل مقالته. فقال لأحدهما : ما تقول في علي؟ قال : أقول فيه قولك. قال : أتبرأ من دين علي الذي يدين الله به؟ فسكت ، فتشفّع فيه بعض الحاضرين ، فنفاه إلى الموصل فمات بها. وقال للآخر : ما تقول في علي؟ قال دعني لا تسألني ، فهو خير لك. قال : والله لا أدعك. قال : أشهد أنّه كان من الذاكرين الله كثيراً ، من الآمرين بالحقّ ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن النّاس ... إلى أنْ قال له معاوية : قتلت نفسك. قال : بل إيّاك قتلت. فردّه إلى زياد وأمره أن يقتله شرّ قتلة ، فدفنه حيّاً ، ثمّ قُتل حجر وأصحابه بمرج عذراء ، وكانوا ستّة ، والذي دفنه زياد حيّاً ، فهؤلاء سبعة ونجا منهم سبعة. وبعث معاوية رجلاً أعور اسمه هدبة القضاعي ، ومعه رجلان ليقتلوا مَن أمروا بقتله ، فأتوا مساءً ، فقالوا لهم : إنّا قد اُمرنا أنْ نعرض عليكم البراءة من علي (ع) واللّعن له ، فإنْ فعلتم تركناكم ، وإنْ أبيتم قتلناكم. فقالوا : لسنا فاعلي ذلك. فحُفرت لهم القبور واُحضرت الأكفان ، وقام حِجر وأصحابه يُصلّون عامّة الليل ، كما قام الحسين (ع) وأصحابه ليلة العاشر من المُحرّم يصلّون عامّة الليل ، ويذكرون الله تعالى ويدعون ويستغفرون ، وهم يعلمون أنّهم في صبيحة تلك الليلة مقتولون لا محالة ، كما يعلم حِجر وأصحابه أنّهم في صبيحة ليلتهم مقتولون لا محالة ، فما أشبه الأبناء بالآباء ، والخلف بالسلف. وكان للحسين (ع) وأصحابه في تلك الليلة دوي كدوي النّحل ، وباتوا ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد :
سمةُ العبيدِ منَ الخشوعِ عليهمُ |
|
للهِ إنْ ضمَّتهُمُ الأسحارُ |
فإذا ترجَّلت الضُّحَى شهِدتْ لهُمْ |
|
بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ |
ولمّا كان الغد ، قُدّم حجر وأصحابه الستّة فقُتلوا ، وصُلّي عليهم ودُفنوا ، ولمّا كان الغد من يوم عاشوراء ، وقُتل الحسين (ع) وأصحابه ، لم يُصلّى عليهم ولم يُدفنوا ، بل إنّ عمر بن سعد صلّى على أصحابه ودفنهم ، وترك الحسين (ع) وأصحابه مطرَّحين على الرمضاء بغير دفن ، جثثاً بلا رؤوس حتّى جاء بنو أسد بعد ثلاثة أيام ، فصلّوا على تلك الجثث الطواهر الزواكي ودفنوها.