فيمَن حوله فإذا جلّهم من مضر ، ونفر قليل من اليمن ، وحيث إنّ الوليد يمانيّ ، واليمانيّون قليلون في مجلسه ، لم يخف من الوليد ، فقال : أيها الشقي الخائن ، إنّي لأخال أنّ هذا آخر كلام تفوّهت به. وكان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذٍ ، وكان يمانيّاً ، فعرف موقف الطائي ومراد معاوية ، فخافه عليه ، فهجمَ عليهم الدار وأقبل على اليمانيّة ، فقال : شاهت الوجوه ذلاّ ًوقلاّ ً ، وجدعاً وفلاّ ً. ثمّ التفت إلى معاوية ، فقال : لقد رأيتك بالأمس خاطبت أخا ربيعة ـ يعني : صعصعة بن صوحان ـ وهو أعظم جرماً عندك من هذا ، ثمّ أثبتّه وسرّحته ، وأنت الآن مجمع على قتل هذا زعمت استصغاراً لجماعتنا ، ولَعمري ، لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك ، لكان جدّك العاثر وذكرك الداثر ، وحدّك المفلول وعرشك المثلول ، فأربع على ظلعك (١) ؛ فإنّا لا نرام بوقع الضيم ، ولا نتلمّط جرع الخسف (٢). فقال معاوية : الغضب شيطان ، فأربع على نفسك أيّها الإنسان ؛ فإنّا لم نؤتِ إلى صاحبك مكروهاً ، فدونكه ؛ فإنّه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره. فأخذ عفير بيد الوليد وخرج به إلى منزله ، ثمّ جمع مَن بدمشق من اليمانيّة ، وفرض على كلّ رجل دينارين في عطائه ، فبلغت أربعين ألفاً ، فجعلها من بيت المال ودفعها إلى الوليد وردّه إلى العراق. ولو كان معاوية حليماً ـ كما يدّعي ويُدّعى له ـ ، لما قَتل حِجراً وأصحاب حِجر حيث لم يتبرّؤوا من أمير المؤمنين (ع) ، لمَا قتل عمرو بن الحمق الخزاعي بعد ما حبس زوجته سنتين في سجن دمشق. ولمّا جاءه رأسه ، أرسله إليها ووضعه في حجرها ، هذا بعد ما أعطى الحسن بن علي (ع) العهود والمواثيق أنْ لا يتعرض لشيعته. وإنّما كان يظهر الحلم حين يرى فيه مصلحة لدنياه ، وحين يخاف من عاقبة البطش ، فيدعه ويُظهر أنّ ذلك عن حلم ، وإنّما هو عن خوف ، وإلاّ فما باله وقد ملك الأمر ، وانقادت له النّاس بعد صلح الحسن (ع) ، يسلّط زياد بن أبيه على شيعة علي (ع) ، فيسومهم سوء العذاب بالقتل والنّفي ، وسلب الأموال وهدم الدور؟ وما بالُه يستحضر مَن يعرفهم بحبّ علي (ع) ، من نساء ورجال ، من الأمكنة البعيدة ، فيتهدّدهم ويتوعّدهم ويؤنّبهم ، ثمّ يُظهر الحلم عنهم حينما يخاف عاقبة البطش؟ وما بالُه يُحمل عبد الله بن هاشم المرقال إليه أسيراً ، بعد صلح الحسن (ع) ، فيسجنه ويُهدّده بالقتل؟ ولو كان حليماً ـ كما يقول ويُقال فيه ـ لفعل كما فعل أمير المؤمنين (ع) ، فعفا عن أهل الجمل لمّا ظفر بهم ، وفيهم أعدى النّاس له ، ولم يجازهم بشيء ، وأصدر عفواً عامّاً عن جميع أهل البصرة الذين
_______________________
(١) أي : إنّك ضعيف ، فانته عمّا لا تطيقه.
(٢) أي : الذّل. ـ المؤلّف ـ