فصار جيفة بين أهله ، قد اُوحشوا من جانبه وتباعدوا من قُربه لا يُسعد باكياً ولا يُجيب داعياً ، ثمّ حملوه إلى محطٍّ في الأرض ، وأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته ، حتّى إذا بلغ الكاتب أجله والأمر مقاديره ، وألحق آخر الخلق بأوّله ، وجاء من أمر الله ما يُريده من تجديد خلقه ، أماد السّماء وفطرها ، وأرج الأرض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها ، ودكّ بعضها بعضاً من هيبة جلاله ومخُوفِ سطوته ، وأخرج مَن فيها فجدّدهم [بعد] إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثمّ ميّزهم لمِا يُريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال ، وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء ، وانتقم من هؤلاء ؛ فأمّا أهل طاعته ، فأثابهم بجواره وخلّدهم في داره ، حيث لا يظعن النّزال ولا تتغير لهم الحال ، ولا تنوبهم الأفزاع ولا تنالهم الأسقام ، ولا تعرض لهم الأخطار ولا تشخصهم الأسفار ؛ وأمّا أهل المعصية ، فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق ، وقرن النّواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ومقطّعات النّيران ، في عذاب قد اشتدّ حرُّه ، وباب قد اُطبق على أهله في نار لها كَلَب ولجب ، ولهب ساطع وقصيف هائل ، لا يظعن مُقيمها ولا يُفادى أسيرها ، ولا تفصهم كبولها. لا مدّة للدار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيقضى». مقام عظيم أبكى زين العابدين (ع) وقال : «ومالي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري؟! وأرى نفسي تُخادعني وأيامي تُخاتلني ، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت. فمالي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي ، أبكي لظلمة قبري ، أبكي لضيق لحدي ، أبكي لسؤالِ منكر ونكير إيّاي ، أبكي لخروجي من قبري عريان ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري ، أنظر مرّةً عن يميني واُخرى عن شمالي ، إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ وذلّةٌ ولمْ يزل زين العابدين (ع) ، وهو ذو الحلم الذي لا يبلغ الوصف إليه ، حزيناً على مصيبة أبيه الحسين (ع) مدّة حياته بعد أبيه ، وهي أربعون سنة ، صائماً نهاره قائماً ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، فيقول : كُلْ يا مولاي. فيقول (ع) : «قُتل ابن رسول الله جائعاً ، قُتل ابن رسول الله عطشان». فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتّى يبلّ طعامه من دموعه ، ثمّ يمزج شرابه بدموعه ، فلمْ يزلْ كذلك حتّى لحق بالله عزّ وجل.
فيا وقْعةً لمْ تُبلَ إلاّ تجدّدتْ |
|
وأحزانُها بين الضِّلوعِ رواسخُ |