حرام ، فمَن شاء منكم أنْ يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت أنْ لا يُخرج رجل منكم من ماله ـ لكرامة زوّار بيت الله وتقويتهم ـ إلاّ طيِّباً ؛ لم يُؤخذ ظُلماً ، ولم يقطع فيه رحم ، ولم يُؤخذ غصباً. فكانوا يجتهدون في ذلك ويُخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار النّدوة ، وتنافرت قريش وخزاعة إلى هاشم (أي : تخاصمت إليه وطلبت منه أنْ يحكم بينها) ، فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطّاعة ، فقال في خطبته : أيّها النّاس ، نحن آل إبراهيم وذرّيّة إسماعيل ، وبنو النّضر بن كنانة ، وبنو قصي بن كلاب ، وأرباب مكّة وسكّان الحرم ، لنا ذروة الحسب ومعدن المجد ، ولكلٍّ في كلّ حلف يجب عليه نصرته وإجابة دعوته ، إلاّ ما دعا إلى عقوقِ عشيرة وقطع رحم. يا بني قصي ، أنتم كغصني شجرة أيّهما كُسر أوحش صاحبه ، والسّيف لا يُصان إلاّ بغمده ، ورامي العشيرة يُصيبه سهمه ، ومَن محكه اللجاج أخرجه إلى البغي. أيّها النّاس ، الحلم شرف والصّبر ظفر ، والمعروف كنز والجود سؤدد ، والجهل سفه ، والأيّام دول والدّهر ذو غير (أي : منقلب) ، والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله. فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ، ودعوا الفضول تُجانبكم السّفهاء ، وأكرموا الجليس يعمرُ ناديكم ، وحاموا الخليط يُرغب في جواركم ، وأنصفوا من أنفسكم يُوثق بكم. وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق الدنية فإنّها تضع الشّرف وتهدم المجد ، وإنّ نهنهة الجاهل (أي : زجره) أهون من جريرته ، ورأس العشيرة يحمل أثقالها ، ومقام الحليم عِظة لِمَن انتفع به. فقالت قريش : رضينا بك أبا نضلة ، وهي كُنيته.
فانظر إلى ما أمر به في هذه الخطبة من شريف الأخلاق ، ونهى عنه من مساوئ الأفعال ، هل صدر إلاّ عن غزارة فضل ، وجلالة قدر ، وعلو همّة؟ قال ابن الأثير وغيره : فحسده اُميّة بن عبد شمس على رئاسته وإطعامه ، فتكلّف اُميّة أنْ يصنع صنيع هاشم فعجز عنه ، فشمتت به ناس من قريش ، فغضب ونال من هاشم ، ودعا إلى المنافرة (أي : المخاصمة) عند مَن يحكم بينهما أيّهما أكرم وأفضل ، فكره هاشم ذلك ؛ لسنّه وقدره ، فلم تدعه قريش حتّى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكّة عشر سنين ، فرضي اُميّة وجعلا حكماً بينهما الكاهن الخُزاعي ، ومنزله بعسفان. فقال الكاهن : والقمرِ الباهر ، والكوكبِ الزّاهر ، والغَمام الماطرِ ، وما بالجوِّ من طائر ، وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغائر ، لقد سبق هاشم اُميّة إلى المآثر أوّل منه وآخر. فقضى لهاشم بالغلبة ، وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها. وغاب اُميّة عن مكّة بالشّام عشر سنين ، وكانت هذه أوّل عداوة وقعت بين هاشم واُميّة ، واستمرت هذه العداوة التي لم يكن لها سبب إلاّ الحسد ، فلمّا جاء الإسلام كان أعدى الأعداء لرسول الله (ص) أبو سفيان ـ صخر بن