فمات عبد المطّلب وهو ابن ثمان سنين فضمّه أبو طالب إلى نفسه ، لا يُفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه حتّى بلغ لا يأمن عليه أحداً.
وما زال بنو هاشم معادن الوفاء وكرم الأخلاق ، وطيب الأفعال والعلم والحلم ، فما فعل عبد المطّلب في حق النّبي (ص) ممّا سمعت إلاّ عن علم توارثه عن آبائه ، وكانوا على بقيّةٍ من دين إبراهيم (ع). وقام أبو طالب بما وصّاه به أبوه من نصرة النّبي (ص) وحفظه خير قيام ، وآمن به وصدّقه ولكنّه كان يكتُم إيمانه للمصلحة ، ويجهر به أحياناً في مثل قوله :
ولقدْ علمتُ بأنَّ دينَ مُحمَّدٍ |
|
منْ خيرِ أديانِ البريّةِ دينَا |
ولكن العداوة لولده عليٍّ (ع) دعتْ قوماً إلى أنْ يقولوا زوراً وبُهتاناً إنّه لم يُسلم. أمّا وفاء بني هاشم لذرّيّة أبي طالب ، فمن مظاهره يوم عاشوراء ، فقد استشهد مع الحسين (ع) منهم سبعة عشر رجُلاً ما لهم على وجه الأرض شبيه ، من ولد علي وجعفر وعقيل أولاد أبي طالب عليهمالسلام ، ومن ولد الحسن والحسين عليهماالسلام. وقد خطبهم الحسين (ع) وأذن لهم في الانصراف ، فقال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين (ع) ، واتّبعه الجماعة ، فتكلّموا بمثله ونحوه. هكذا فليكن الوفاء ، وهكذا فلتكن النّفوس الكبيرة. وما قيمة الحياة الفانية التي يُشرى بها العزّ والإباء والحياة الباقية؟ وكيف يمكن لإبناء هاشم وعبد المطّلب وأبي طالب أن يرضوا لأنفسهم الحياة بعد سيّدهم الحسين (ع) ، ويكونوا تحت إمرة سكّير بني اُميّة ودعيّها وابن دعيِّها سلالة الفحش والفجور؟! كلاّ ثمّ كلاّ ، إنّ العيش تحت إمرة هؤلاء لهو الموت الدّائم ، والقتل في سبيل العزّ لهو الحياة الخالدة. ثمّ نظر صاحب الشّفقة والرّأفة ، ومُعلّم الخَلق مكارم الأخلاق إلى بني عقيل ، فقال : «حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم». وانظروا إلى ما أجاب به هؤلاء الأعاظم ، سلالة عبد المطّلب وفروع هاشم. قالوا : سبحان الله! فماذا يقول النّاس لنا ، وما نقول لهم؟ إنّا تركنا شيخنا وسيِّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرمِ معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا. لا والله ، ما نفعل ولكنْ نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك. بخٍ بخٍ لهذه النّفوس العظيمة! كيف يترك بنو عقيل وهم فرع من فروع الشّجرة الباسقة الهاشميّة ، شيخ العشيرة وسيّدها ، ويتركون بني عمومتهم خير الأعمام ولا يُشاركونهم في