فالجواب : أن إنجاء السفينة شيء يتسع له (١) العقول ، فلم يكن فيه من الآية إلا إعلام الله تعالى إياه بالإنجاء وقت الحاجة بسبب أن الله تعالى صان (٢) السفينة عن المهلكات كالرياح ، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه لآيات فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هناك : (آيَةً لِلْعالَمِينَ) وقال هنا (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فخص الآيات بالمؤمنين؟
فالجواب : أن السفينة بقيت أعواما حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد ، وأما تبريد النار فلم يبق فلم يظهر (لمن بعده) إلا بطريق الإيمان والتصديق ، وفيه لطيفة (وهو) (٣) أن الله تعالى لما برّد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه ، وقد قال الله تعالى للمؤمنين بأن لهم أسوة في إبراهيم ، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله تبارك وتعالى يبرد عنه النار يوم القيامة ، فقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، فإن قيل : لم قال هناك : (جَعَلْناها) ، (وقال هنا جعلناه) (٤)؟
فالجواب : لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ، ولو لا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح (سفها) (٥) فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية ، وأما تبريد النار فهو في نفسه (آية) (٦) إذا وجدت لا تحتاج إلى شيء آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية.
قوله : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ) في «ما» هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون موصولة (٧) بمعنى الذي ، والعائد محذوف وهو المفعول الأول ، و «أوثانا» مفعول ثان ، والخبر «مودّة» في قراءة (٨) من رفع كما سيأتي ، والتقدير : إنّ الذي اتّخذتموه أوثانا مودة أي ذو مودة أو جعل نفس المودة محذوف على قراءة من نصب (٩) «مودّة» أي الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة لا تنفعكم ، أو يكون «عليكم» لدلالة قوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ).
والثاني : أن تجعل «ما» كافة (١٠) ، و «أوثانا» مفعول به ، والاتخاذ هنا يتعدى لواحد
__________________
(١) في ب : تسعة.
(٢) في ب : أصاب. وهو تحريف.
(٣) ساقط من ب.
(٤) ساقط من ب.
(٥) ساقط من ب.
(٦) ساقط من ب.
(٧) إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٥٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٠١ ، والبيان لابن الأنباري ٢ / ٢٤٢ ، وإعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٤ / ١٦٧ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣١٦ ، والتبيان لأبي البقاء ٢ / ١٠٣١ ، ومشكل إعراب القرآن ٢ / ١٦٨ ، ١٦٩.
(٨) الكشف ٢ / ١٢٨. وهي قراءة أبي عمرو ، وابن كثير ، والكسائي «غير منون» وخفض «بينكم ، مودة بينكم» أي على الإضافة. وانظر: التبيان ٢ / ١٠٣١ ، والنشر ٣ / ٣٤٣ ، وتقريب النشر ١٥٨ ، وانظر : السبعة لابن مجاهد ٤٩٨ ، والإتحاف ٣٤٥ ، والحجة لابن خالويه ٢٧٩ ، بدون نسبة كما في التبيان.
(٩) وهي قراءة نافع وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر منونا بالنصب ، وقرأ حفص وحمزة وعاصم في رواية حفص «مودة بينكم» بنصب مودة مع الإضافة ، السبعة ٤٩٩ ، وانظر : النشر ٢ / ٢٤٣ ، وتقريب النشر ١٥٨ والإتحاف ٣٤٥ ، وحجة ابن خالويه ٢٧٩.
(١٠) التبيان ١٠٣٠ ، والدر المصون ٤ / ٣٠١ ، والبيان ٢ / ٢٤٢ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٨ ، ٤٩.