فالجواب : أن الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك (١) ، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي على أعلى (٢) الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقيا ، والغرق لم يبق لمن بعده أثره (٣) ، فجعل الباقي آية ، وأما ههنا فنجاة «لوط» لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد ، فجعل الآية ههنا البلاد ، وهناك السفينة ، وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدره (٤) موجودة في الإنجاء والإهلاك ، فذكر من كل باب آية ، وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة ، وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ، ورحمته سابقة.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في السفينة (جَعَلْناها آيَةً) ، ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة؟
فالجواب : أنّ الإنجاء بالسفينة أمر يسع له كل العقل (٥) وقد يقع في ذهن جاهل أن الإنجاء لا يفتقر إلى أمر آخر ، وأما الآية ههنا الخسف ، وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها ، وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر مخصصة (٦) بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان فهي بينة لا يمكن لجاهل (٧) أن يقول هذا أمر يكون كذلك ، وكان (٨) له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك ، فيقال له : فلو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان حصل (٩) لهم النجاة؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة ، وكيف تكون أحوالهم (١٠)؟
فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك : «للعالمين» ، وفي قوله ههنا : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)؟
فالجواب : أن السفينة (موجودة) (١١) معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون (١٢) بها حالة نوح ، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ، فلا (١٣) يثق أحد بمجرد السفينة ، بل يكون دائما مرتجف القلب متضرعا إلى الله تعالى طالبا النجاة (١٤) ، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليها إلا من مرّ بها (١٥) ، ويصل إليها (١٦) ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله فإرادته (١٧) بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان ، قال ابن عباس : الآية البينة : آثار منازلهم الخربة (١٨). وقال قتادة : هي الحجارة (١٩) التي أهلكوا بها أبقاها الله (تعالى) (٢٠) حتى
__________________
(١) في ب : هلاك.
(٢) في ب : من علا.
(٣) في ب : له بعده أثر.
(٤) في ب : قدرته.
(٥) في ب : عقل بدون أل.
(٦) في ب : يخصصه.
(٧) في ب : الجاهل.
(٨) في ب : كان بدون واو.
(٩) في ب : يحصل.
(١٠) في ب : احتمالهم.
(١١) ساقط من ب.
(١٢) في ب : يتكلمون.
(١٣) في ب : ولا.
(١٤) في ب : طالب النجاة.
(١٥) في ب : يمر به.
(١٦) في ب : إليه.
(١٧) في ب : وإرادته بالواو.
(١٨) انظر : القرطبي ١٣ / ٣٤٣.
(١٩) وهذا رأي أبي العالية أيضا ، انظر : القرطبي ١٣ / ٣٤٣.
(٢٠) ساقط من ب.