فإن قيل : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك. فكيف كانت من الغابرين معهم؟
فالجواب : أن الدالّ على الشر كفاعل الشر كما أن الدال على الخير كفاعله (١) ، وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة (٢) صارت كأحدهم ، ثم إنهم بعد بشارة «لوط» بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب (٣).
واختلفوا في ذلك ، فقيل : حجارة ، وقيل : نار ، وقيل : خسف ، وعلى هذا يكون قولهم : (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) بمعنى أن الأمر من السماء بالخسف والقضاء به من السماء ، واعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على (نمط) (٤) كلامهم مع إبراهيم ، فقدموا البشارة على إنزال العذاب ، فقالوا : (إِنَّا مُنَجُّوكَ) ثم قالوا : (إِنَّا مُنْزِلُونَ) ولم يعللوا التنجية ، فلم يقولوا : إنا منجوك لأنك نبي أو عابد ، وعللوا الإهلاك ، فقالوا : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) كقولهم هناك : (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ).
قوله : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً) فيها وجهان :
أحدهما : أن بعضها «باق» وهو آية باقية إلى اليوم ، والمعنى تركنا من قريات (قوم) (٥) لوط آية بيّنة عبرة ظاهرة.
الثاني : أن «من» مزيدة ، وإليه نحا الفراء (٦) أي تركناها آية كقوله
٤٠٢٩ ـ أمهرت منها جبّة وتيسا (٧)
أي أمهرتها ، وهذا يجيء على رأي الأخفش ، أي ولقد تركنا القرية. والقرية معلومة ، وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك.
فإن قيل : كيف جعل الآية في «نوح» و «إبراهيم» بالنجاة (٨) فقال : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ). وقال : (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ)) ، وجعل ههنا الهلاك آية؟
__________________
(١) في ب : فالجواب أن الدال على الخير كفاعله والدال على الشر كفاعله.
(٢) في ب : فالدلالة. وهو تحريف.
(٣) في ب : بدل العذاب «رِجْزاً مِنَ السَّماءِ».
(٤) ساقط من ب.
(٥) زائد فيهما وهو خطأ.
(٦) لم يذكر الفراء شيئا عن هذه اللفظة «من» في سورة العنكبوت عند تعرضه لتلك السورة وتفسير معانيها. انظر المعاني ٢ / ٣١٤ ، ٣١٧.
(٧) رجز مجهول قائله ، والجبة : نوع من الثياب معروف ، والتّيس : ذكر الماعز والظباء ، ومعناه : أنه ساق مهرها هذين الشيئين. والشاهد فيه قوله: «فأمهرت منها» لأن المعنى : فأمهرتها وهذا على قياس رأي الأخفش لأنه ارتأى أن تراد «من» في المثبت أو الموجب ، وانظر : شرح الجمل ١ / ٤٨٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٤.
(٨) في ب : النجاة.